تونس | افتتح «المركز الثقافي الدولي» في الحمامات في تونس سلسلة إصدارات جديدة تحمل عنوان «كراسات دار سبستيان» بكتاب عن الحروفي والرسام الاستثنائي نجا المهداوي (1937). الكتاب (أشرف على إعداده محمد المي) الذي يعدّ في الأصل حصيلة مؤتمر تكريمي احتضنه المركز العام الماضي، يندرج ضمن تَوجّهٍ جديد اختاره المركز الأشهر في محيط المتوسط بتنظيم مؤتمراتٍ تكريمية لأعلام الثقافة التونسية. كانت البداية مع نجا المهداوي (مواليد مدينة تونس العتيقة) الذي التحق بمدرسة الفنون الجميلة في تونس، ثم أكاديميّة الفنون في روما ومعهد اللّوفر في باريس، ونجح في تحويل الخط العربي إلى تعبيرٍ تشكيليّ، متجاوزاً معاني الكلمات التي منحها بُعداً بصرياً، ممّا كرّس مكانته على المستوى الدّولي بما لم يحقّقه أي فنّان تونسي آخر.

في هذا الكتاب الذي تصدّرت غلافه لوحة من لوحات المهداوي، نقرأ شهادات لمثقّفين وكتّاب وتشكيليّين تونسيّين عن هذه التّجربة الساحرة مثل الكاتب المسرحي عز الدين المدني، والتشكيلي والعميد الأسبق للمعهد العالي للفنون الجميلة في تونس الناصر بن الشيخ، وللأستاذة في المعهد العالي للموسيقى ووزيرة الثقافة في 2016 سنية مبارك، والأستاذة في المعهد العالي للفنون الجميلة في تونس كوثر تشيتش، والروائي وأستاذ الأدب المقارن في الجامعة التونسية محمود طرشونة، وأستاذ الفلسفة المعاصرة في الجامعة التونسية حمادي بن جاء بالله وغيرهم.
جمع العمل شهادات حب في فنّان قطع مسيرة استثنائية مكّنته من إشعاعٍ عالميّ لم ينافسه فيه في مجاله لغاية اليوم سوى العراقي حسن المسعودي، والجزائري رشيد القريشي. ومن بين الشهادات التي نبّهت إلى خصوصيات التجربة شهادة الناصر بن الشيخ الذي ينتمي إلى الجيل نفسه. تحدّث بن الشيخ عن تجربة مجموعة «الخمسة» في الستينات من القرن الماضي ومسيرتهما في باريس في نهاية الستينات، وتجربة مجموعة «ارتسام». وبروح التلميذة المشدودة إلى عوالم أستاذها التشكيلية، قالت كوثر تشيتش: «نجا المهداوي يحاور نقطة حبرٍ حمراء يعكس فيها ذاته، فالنقطة عنده هي الذات l'être يوجدها، ومنها ينطلق. فالرسم حدث الإيجاد وميلاد جديد ومقاومة لما كان. النقطة تتحرّك بحرية في فضاء اللوحة في قلبها أو على حوافها، تنفّذ عبر الفراغات والمساحات غير المعبّأة والفتحات في الدوائر والإنفراجات في الزوايا في إيحاء إلى سبيل النجاة: لا للانغلاق ولا للاختناق».
وتحدّث الروائي محمود طرشونة عن تجربة المهداوي في كتاب «مراتب العشق» الذي جمع بين المهداوي ورجاء عالم. في هذه الشهادة التي حملت عنوان «عندما يحوّل السرد إلى رسم بريشة نجا المهداوي في «مراتب العشق»»، يقول طرشونة عن المهداوي «فالحرف إذن رحم تتولّد منه الخرافات والشخصيات، فيرحل غازياً مدن الشرق ومطاراته وجدرانه من قرطاج إلى المدينة المنورة، أي من تخوم إفريقيا إلى تخوم آسيا. ضربة الحرف ورفّة الحرف فيها واحدة لا تتغير إلا للتعبير عن معنى مختلف».
وفي شهادته المعنونة «كوسمولوجيا الحروف: بن عربي ونجا المهداوي»، قارن الباحث حمادي صمود بين بن عربي والمهداوي، قائلاً: «ليس الرسم عند صاحبنا تأصيلاً لكيان حضاري عربي أو اسلامي، فلا وجود في رسوم المهداوي لأي «برادغم» أو «نموذج» ثقافي يؤخذ مأخذ «المنوال» أو «المثال» تحوم حوله ريشة الرسام، وتحاول نقله لو بتصرف بعيد». ويضيف أنّ «لوحات نجا المهداوي اختارت أن تكون في ما بعد الموجودية والمعدومية، انطولوجياً، في ما بعد الحقيقة والخطأ ابستمولوجياً، وفي ما بعد الخير والشر أخلاقياً».
وتحدّث الكاتب المسرحي الأشهر في تونس عز الدين المدني عن علاقته بنجا المهداوي بدءاً من ستينات القرن الماضي. قال عن صديقه: «ما الذي ألجأ نجا المهداوي إلى هذا الفعل الفني المستوحى من الخط العربي؟ ليس هو بخطاط مطلقاً وإنما هو فنان رسّام ينتمي إلى الثقافة والحضارة العربية. لكن الذين جاؤوا بعده وقلّدوه، لم يدركوا ما حقّقه في العسر والعمق، فسقطوا في السهل اليسير رغم شهرتهم».
وكان لا بد من الاستماع لشهادة الفنان العالمي الذي وصلت شهرته إلى أعرق متاحف الفن في العالم نجا المهداوي الذي كتب: «في ما يتعلّق بي، فقد انطلقت من مبدأ تأمل التراث وفهم المصادر التاريخية، وقد انتهت بي نتيجة ذلك كون الحرف العربي بثرائه وتعقيداته فناً فريداً على المستوى البصري التشكيلي لأنه يتضمّن عالماً بلا حدود من التعبير التصويري. وهو عندي أثر تشكيلي يفرغ الحرف من معناه ويكفّ عن حمل أي خطاب علمي، فيتحول إلى بنية دالة تشكيلية كمرحلة أولى من انجاز بحث شامل».
في الخلاصة، الكتاب احتفاء بتجربة تشكيلية ساحرة قادت نجا المهداوي إلى العالمية والمجد الفني، فالحرف استحال عنده مفردةً تشكيلية حوّلت اللغة العربية إلى لغة بصرية تجاوزت بذلك التخلّف العربي في مواكبة العلوم.