إذا تجاوزنا الحدود القهريّة بين المدينتين، ستستغرق الرحلة البريّة بين بيروت وحيفا، أربع ساعات و22 عشرين دقيقة، كما تقدّر خرائط غوغل. يضاف إلى هذا القرب الساحلي، تأثير بيروت ولبنان على مدن فلسطينية أساسيّة مثل حيفا وشفا عمرو والناصرة، كما جاء في بيان جائزة Pheonix – 2021، في إشارتها إلى دور البنّائين اللبنانيين في تشييد العمارات التقليدية هناك، قبل الاحتلال الإسرائيلي. خصّصت الجائزة التي تُقدّمها مؤسسة Idar-Jerusalem (مجموعة من المهندسين والمعماريين الفلسطينيين تروج لحلول وتصاميم للمدن المعرّضة للخطر)، ضمن برنامج «جائزة حيفا الدولية»، دورتها الحاليّة إلى إعادة إعمار مرفأ بيروت، حيث نالها أخيراً الفريق الفلسطيني، الذي يضمّ أربعة مهندسين معماريين متخرّجين من «جامعة بيرزيت» في رام الله عن مشروعهم «ما بعد الانفجار ــــ بيروت المنتجة». يجمع الفريق الفائز ثلاث مهندسات ومهندساً واحداً هم آلاء أبو عوض، وديالا أندونيا، وميس بني عودة ومجد المالكي. في تصميمهم، لا يقف الرباعي عند لحظة الانفجار، بل يحاول المهندسون في تصميمهم تقديم حلول لأزمات البطالة والسكن والبيئة. يقوم المشروع على أسئلة مختلفة تتفرّع من علاقة مرفأ بيروت بالمدينة، والبؤر السكنيّة، وهو بهذا يقدّم حلاً للبيوت والشقق المتضرّرة، منها أحياء كاملة من المدينة. هذه أسئلة لا تشتمل فقط على علاقة المرفأ بالعاصمة اللبنانيّة، بل بأوصال مقطوعة، تشكّل سمة بيروت وعلاقة أحيائها المتقطّعة بعضها ببعض، منذ إعادة الإعمار ما بعد الحرب، أي حين انشقّ الوسط عن أطرافه.

مشروع «ما بعد الانفجار ــــ بيروت المنتجة» الذي فاز بجائزة Idar-Jerusalem



لدى فوزه، أشار فريق «ماد آركيتيكتس» (M.A.D Architects) في مقابلات عدّة، إلى أن كارثة المرفأ في بيروت، لا تبتعد عن التجربة الفلسطينية، لناحية الهدم والبناء، وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على المساحات العامّة الفلسطينيّة. في لحظة واحدة، اختفت معالم أساسية من بيروت، طارت بيوت وشرفات ونوافذ، وهبطت أحياء كاملة، وغابت وجوه إلى الأبد. كلّ ذلك حدث في ثانية واحدة، في الرابع من آب السنة الفائتة. إذا فتّتنا تلك اللحظة المريعة إلى نتف، سنحصل على لحظات فلسطينية لامتناهية من الهدم والزوال بفضل آلة التدمير الإسرائيلية. تقبع هذه الوقائع كخلفية للمشروع المعماري، برؤيته الشاملة التي لم تتنازل عن الجوانب الاقتصاديّة والبيئية والاجتماعيّة والبشريّة.
طوال أربعة أشهر، عمل الفريق على المشروع، من دون أن يتمكّن أيّ من أعضائه من زيارة بيروت جرّاء الحدود والاحتلال. بدلاً من ذلك، استندوا في بحثهم المكثف إلى تقارير مفصّلة لمهندسين لبنانيين، وتواصلوا مع النقابة، لمعرفة حجم الأضرار في المرفأ ومحيطه، بالإضافة إلى الأوراق الأكاديمية، والاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي للتعرّف إلى آراء الناس. وبالعودة إلى الاحتلال الإسرائيلي، واستحواذه على الفضاء الفلسطيني العامّ، ينحاز المشروع الفائز إلى تعزيز المفهوم العام للمساحات المدينية، خصوصاً تلك المحيطة بالمرفأ. يأتي هذا انطلاقاً من واقع الواجهة البحريّة اللبنانية، والبيروتيّة تحديداً المستلبة من قبل الاستثمارات والمشاريع الخاصّة. من هنا، يفتح المشروع الواجهة البحريّة أمام العامّة، لا للفرجة والنقاهة فحسب، بل توظيفها للإنتاج المحلّي بشكل رئيسي.
في المشروع الفلسطيني الذي تنافس مع 12 مشروعاً من دول عالمية مختلفة، لا يعود المرفأ مجرّد بوّابة تجارية أو بؤرة معزولة عن المدينة وهمومها اليوميّة. يُقترح ميناء بيروت كمساحة سكنية وإنتاجية جامعة، تشتمل على مساكن موقّتة ضمن ثلاث وحدات سكنيّة مؤقتة، لـ 300 ألف شخص ممّن فقدوا مآويهم، أنجزه الفريق استناداً إلى معلومات وإحصاءات تتعلّق بحجم العائلة اللبنانيّة، وقدراتها الاقتصاديّة. حاولت المجموعة، في الدرجة الأولى، الابتعاد عن التعامل مع المكان كنصب تذكاري فحسب، خصوصاً في ظلّ الظروف الإقتصادية التي يعيشها لبنان. إذ تشيّد مدينة صناعية إنتاجية بحلقات متكاملة ومستدامة، تحوي مؤسسة للتعليم المهني، وورشاً ومصانع من أجل منح العمال فرص عمل في ظل أزمة البطالة التي ازدادت حدّتها جرّاء الانفجار الذي قضى على مؤسّسات وشركات عدّة.
يفتح المشروع الفائز الواجهة البحريّة أمام العامّة، لا للفرجة والنقاهة فحسب، بل أيضاً لتوظيفها في الإنتاج المحلّي

ضمن هذه الحلقة المتكاملة، يتاح للعمّال المتخرّجين من المدارس المهنية، المشاركة في إعادة الإعمار من خلال مصانع مخصصة لإعادة تدوير المواد المتراكمة من الأبنية المهدّمة مثل الألمينيوم والخشب والزجاج والحديد، بالتعاون مع مبادرات بيروتية عملت على إعادة التدوير، عبر جمع وفرز الركام. تتسع مساحة المرفأ أيضاً، وفق التصميم، إلى البقع الزراعية التي ستكون مخصّصة لزراعة القمح، في إحالة إلى القمح المخزّن الذي خسرته الأَهراءات في الانفجار.
من هنا يسعى المشروع إلى تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال الإنتاج والزراعة وتأمين فرص العمل. توجّه يحمل رمزيّة استثنائية في الحالة اللبنانية، تتمثّل في تحويل المرفأ من مساحة تعتمد على الاستيراد بشكل كبير، إلى مساحة منتجة. في هذا الحي الجديد، سيتمّ ربط الجانب الصناعي بالأسواق الشعبية من خلال أعمدة الأَهراءات المتبقية التي أنقذت الجانب الغربي لبيروت من عصف الانفجار. هكذا سيُخصص السوق إلى الحرفيين اللبنانيين، لعرض منتجاتهم المحليّة، فيما يحجز التصميم مكاناً لكل المواطنين بإفراده ملاعب ومساحات خضراء جامعة بعيداً عن الانقسامات السياسية والطائفية. أما نقطة الانفجار، فستتحوّل إلى مدرّج إسمنتي دائري مخصص للعروض واللقاءات العامة.
قد يبدو مشروع كهذا ضرباً من الترف في ظل الأوضاع المأساويّة في البلاد، وهذا ما يظهر حتى الآن، إذ لم يحصل المهندسون الفلسطينيون على أي وعود حاسمة من بلديّة بيروت بتنفيذ هذا التصميم. من جهتهم، عبّر المهندسون عن تمسكهم بالمشروع العملي، آملين أن تُسهم الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية في دعم تنفيذ المشروع.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا