يحلل الباحث بشير أبو منة الذي يشغل منصب محاضر في أدب الاستعمار ومدير مركز الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في «جامعة كنت» في بريطانيا، أسئلة الرواية الفلسطينية منذ عام 1948 حتى الحاضر في كتابه «الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر» (مركز الدراسات الفلسطينية ــ ترجمة مصعب حياتلي). يفكك كيف أثرت النكبة والنكسة والوقائع التاريخية على بنية الرواية الفلسطينية عند جبرا ابراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وإميل حبيبي، وسحر خليفة، مخصّصاً فصلين صغيرين لأديبين غير فلسطينيين هما جان جينيه والياس خوري.
يرى المؤلف أنّ غسان كنفاني «كاد أن يكون فرانز فانون الثورة الفلسطينية»

نتتبع رحلة الرواية في نقد أدبي وتاريخي يبين الروابط ما بين السياسة والجماليات عبر تطبيق نظريات جورج لوكاتش وتيودور أدورنو وأدب ما بعد الاستعمار. يلتفت الكاتب لجورج لوكاتش لأنه كما يشير في المقدمة، يريد أن يبني إطاراً نقدياً لدراسة الرواية الفلسطينية يربط التغيرات السياسية الجسيمة بالتغير في شكل الرواية، لأن كتاب لوكاتش «الرواية التاريخية» يعرض صيغة التأويل المادي الأولى للرواية الواقعية التقليدية في أوروبا، ويمكن تطبيقها على عدة مستويات تاريخية وجمالية في الرواية الفلسطينية. هو لا يسعى لإفراغ الأوضاع الفلسطينية في قوالب مسبقة الصنع لأنّ هناك إختلافاً بين الثورات البورجوازية والنضال ضد الاستعمار في المشرق. هو يريد فقط أن يدرس تطبيق فرضية لوكاتش بشأن العلاقة بين الثورة كتاريخ جماهيري وبين الصيغة الجمالية ضمن السياق الفلسطيني، فيناقش ذلك في رفضه لفكرة لوكاتش عن الحداثة ويتبنى رأي أدورنو في الحداثة على أنها مقاومة لتشييئ الزمن المعاصر بتحليل مسارات الرواية الفلسطينية بدءاً من ثورة 1936 حين ثار الفلسطينيون ضد سياسة الاستعمار البريطاني والاستيلاء الصهيوني على أراضيهم. ما عبّد الطريق الى النكبة كما قال غسان كنفاني، الذي أكد أن الثورة لم تكن ضد الاستعمار فحسب، بل ضد الاقطاعية فشكلت هذه الثورة نقطة تحول في الأدب الفلسطيني. شكّل الكتّاب الذين انضموا إلى النضال وحرروا أنفسهم من القبضة الاجتماعية والفكرية والعقائدية للنخبة السياسية المساومة ما أطلق عليهم كنفاني «كتّاب الثورة» ومنهم ابراهيم طوقان، وأبو سلمى وعبد الرحيم محمود، فهؤلاء أسهموا في انطلاقة النضال الوطني. كان هذا العقد هو عقد الشعراء وفيه نشأت الرواية. يعود المؤلف لكتاب قسطنطين زريق «معنى النكبة» لأنه أفضل ما يعبر عن روح ذلك الجيل. يركز زريق في الكتاب على كون فلسطين الوطن التاريخي للقيم الانسانية والمبادئ العليا. وبذلك يعتبر بشير أبو منة أن جبرا ابراهيم جبرا من هذا الجيل، فهو كما يصوره في المقدمة، في طليعة المثقفين في العالم العربي ومن كبارهم. ففي رواياته، تصبح التضحية الفردية سبيلاً للعتق من الهزيمة ورمزاً للتجديد الجماعي، حيث المثقف والفنان هما دائماً في طليعة التغيير الجماعي. هكذا التزم جبرا بالطليعة الفنية، اذ يضحّي الفنان بنفسه لتحقيق تقدم واسع النطاق وغاب العمّال والفلاحون عن أدبه. وكما عبر الياس خوري مرة: «إذا كان جبرا قد ارتكب أي خطأ، فخطؤه كان النظر إلى التغيير من منظور ثقافي بحت». ويشير إلى أن روايته الأولى «صراخ في ليل طويل» هي أول رواية فلسطينية، وهي تشدد على التجربة الخاصة للأديب المبدع كعصامي مستقل عن الامتيازات الطبقية. لكن الرواية لا تتطرق إلى كيفية حصول الجماعة التي لا صوت لها على حريتها كما حصل عليها أمين، بطل الرواية، فيسأل الكاتب: هل يؤدي أمين دوراً في وصول الجماعة إلى حريتها ؟
يفكك كيف أثرت النكبة والنكسة والوقائع التاريخية على بنية الرواية


يبدو أن إجابة هذا السؤال تبدو أكثر وضوحاً في روايته الثانية «صيادون في شارع ضيق» حيث يصبح الأفراد أمثلة للتغيير ورموزاً للتجديد. والتضحية ليس للخلاص الفردي بل لخلاص الجميع. يرتبط العام بالخاص أكثر في روايته «السفينة» حيث المآزق الشخصية ليست إلا عوارض للقضايا والهموم الاجتماعية. لكن جبرا كان قد وضع يده في نار الثورة بتعبير عبد الرحمن منيف في روايته «البحث عن وليد مسعود». فالفلسطيني الغائب إنما يبحث عن المشاركة، فالغياب يصبح شكلاً من أشكال التمرد والثورة.
ينتقل بشير أبو منة إلى غسان كنفاني الذي «كاد أن يكون فرانز فانون الثورة الفلسطينية» لولا السيارة المفخخة الغادرة التي أدى انفجارها في بيروت سنة 1972 إلى استشهاده وهو في السادس والثلاثين كما يقول. فهو أيضاً يتميز عن باقي الكتاب الفلسطينيين بجمعه التنظيم السياسي مع النقد الثقافي الأدبي ككاتب وصحافي وناطق باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». هو الذي قاده الأدب إلى السياسة، فدفعته مساهماته الأدبية في واقع التشرد إلى العمل السياسي، فلعب الواقع لا المدارس الأدبية الدور الأكبر في صياغة أدبه. وبدءاً برواية «رجال في الشمس»، يحلّل بشير أبو منة كيف تعرض هذه الرواية لحظات اليأس وعجز اللاجئين في الشتات. يتغير سؤال غسان من «لماذا» في «رجال في الشمس» إلى متى وأين في «ما تبقى لكم» إلى السؤال الأهم وهو «كيف» في «عائد إلى حيفا» التي تطرح رؤية مختلفة للمواجهة مع العدو. ويرى أنّ أسباب هذا التحول تاريخية. فبعد نكسة 1967، حمل الفلسطيني عبء الثورة العربية. لذلك فإن أبطال غسان من الأشخاص العاديين لا النخبة المثقفة كما في أدب جبرا.
أما اميل حبيبي، فهو أفضل من مثّل عزلة فلسطينيي الـ 48 السياسية والفعلية. وفي روايته «المتشائل»، يلعب بطله دوراً اعتيادياً، فهو بخلاف جبرا يعيش حياة الشعب الفلسطيني، ولا ينأى أو يتغرب عنها. واللافت هنا أن اميل حبيبي يحتفي بالخيال لا يرفضه، فالرواية تسعى عبر رحلة سعيد للفصل بين الخيال «كرفض للذات والواقع» وبين الخيال كتأكيد للنفس والذات.
يناقش أبو منة هذه الأفكار في روايات سحر خليفة حيث تشمل الحرية كل قيم التحرر، الاجتماعية والسياسية، ولا سيما في رواية «الصبار» التي تشكل تقييماً للوطنية الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي، حيث تنتقد رومانسية الثورة والكفاح المسلح. ويرى أن المشترك في رواياتها هو تعثر حظوظ كل محاولات التحرر في المجتمع الفلسطيني.
لكن كيف وصلت الرواية الفلسطينية إلى «الحداثة» التي يرفض الفن فيها قمع المجتمع كما يعبر أدورنو في كتاباته؟ يتأمل بشير أبو منة ذلك في روايات «عالم بلا خرائط» لجبرا وعبد الرحمن منيف، و«الغرف الأخرى» لجبرا، و«باب الساحة» لسحر خليفة. يشرح أن ارتباط «الفشل الثوري» والهزيمة بالحداثة واضح في هذه الروايات الأربع حين حلت «الثروة مكان الثورة» بتعبير محمد حسنين هيكل في السبعينات، مما أدى إلى تحول شهدته الرواية الفلسطينية لتصبح أكثر انطوائية، أو كما يقول «ان لم تكن الحداثة الفلسطينية قادرة على تحمل الكارثة التي تمر بها على مستوى المحتوى، فقد نجحت في النجاة منها في الشكل والصيغة». ما يتمناه القارئ بعد التجول في هذا البحث العميق هو دراسة أخرى للشعر الفلسطيني وما حدث له من تحولات في الشكل أيضاً بعد كل هذا التحول التاريخي.