سيبدو الحديث عن الكتب وغلائها ضرباً من ضروب الترف بالنسبة إلى البعض، خصوصاً في سيرٍ متزاحم من الأزمات المعيشية. لكن يبقى السؤال الواجب طرحه: كيف تساعد المكتبات الافتراضية القرّاء؟ وهل تعود بأرباح مادية للعاملين فيها؟ وهل قد تتحول هذه المكتبات من عمل فردي إلى تجارة منظّمة؟في الحروب، لا وسيط لتسلية الأطفال، فكان الكتاب ملجأ طفولة ديانا جمال خلال الحرب. هكذا تشكّلت وتكوّنت علاقتها به. «لم يكن هناك متنفّس غيره في الظروف التي نشأنا فيها» تقول لنا. انضمت جمال إلى فايسبوك عام 2009، حيث وجدت مجموعات لبيع الأدوات المنزلية وغيرها من احتياجات الناس. فكرة إنشاء مجموعات لتبادل الكتب، وخصوصاً المستعملة، لم تكن وقتها مألوفةً. بمساعدة صديقتها الأجنبية، أنشأت مجموعة تُعنى بالكتب عام 2013 تحت اسم book exchange Beirut. لا تتاجر ديانا بالكتب ولا تبيعها على حد قولها، بل تسهّل عمليات البيع، وتساعد الناس على إيجاد حاجتهم من الكتب. تلفت إلى أنّه منذ بداية الأزمة في لبنان، ازداد الإقبال بطريقة تصاعدية ملحوظة. «قبل الأزمة لم تتعدّ طلبات الانضمام أكثر من طلبين في الأسبوع. أما مع تفاقم الأزمة الاقتصادية اليوم، فقد أصبحت طلبات الانضمام تتعدى العشرين في اليوم الواحد»، وما هذا إلا دلالة على حاجة مستخدمي هذه المنصة إلى البحث عن كتب مستعملة.
منذ بداية فترة الحجر المنزلي، رأت الشابة فاطمة زين صاحبة مكتبة «فاء» الإلكترونية فرصة لتنفيذ ما حلمت به منذ صغرها، فقد بدأ الناس في هذا الوقت يلجأون إلى العالم الإلكتروني أكثر من ذي قبل. وجدت زين بأنّ كمية الكتب المكدسة في بيتها كبيرة جداً، فقامت بترتيب أولوياتها وعرضت جزءاً منها للبيع. المشكلة نفسها عانت منها صديقاتها، خصوصاً مع عدم تمكّن بعضهن من شراء كتب جديدة بفعل الأزمة. انطلقت فكرة مكتبتها من خلال إطلاق صفحة عبر انستغرام، ووجود عدد مقبول عليها من المتابعين، الذين شاركتهم الفكرة من خلال خاصية التواصل التشاركي عبر التطبيق وتلقّت دعماً وإقبالاً ملحوظَين.
تلفت زين إلى أنّ اختيار المكتبة الإلكترونية جاء لأسباب مادية واختصاراً لتكاليف لم تكن قادرة على تغطيتها آنذاك. لم يقتصر عملها لاحقاً على شراء الكتب القديمة وبيعها فقط، بل توجهت إلى جمهور الكتاب الجديد. من خلال تجربتها، تؤكد أنّ الكتب المستعملة لا ترضي الجمهور كله. تقول زين: «قد تكون الكتب المهملة لدينا محطّ اهتمام كثير من الأشخاص، ونحن نعلم جيداً أنّ هذا الكتاب المركون على الرف، لن نعود إليه. سنعطي فرصة بذلك لأنفسنا أولاً بالتخلص من أعباء تكدّس هذه الكتب، وسنمنح الآخرين كتباً بأوفر ما يكون ثانياً. وبهذا نكون قد وضعنا كتاباً مهملاً في مكان يقدّر قيمته، باعتبار أنّه يمكن أن يشكل كنزاً حقيقياً للراغب في الحصول عليه». تأمل فاطمة زين أن تعمّم هذه الثقافة حتى في الظروف الاعتيادية، و«علينا أن نرى الجانب الممتلئ من الكوب، فالوضع الراهن أجبرنا على أن نعيش على طبيعتنا. والمجتمع الناجح هو الذي يستفيد من هذه الفرص».
نجحت المكتبات في حلّ جزء من الأزمة وسدّ بعض الثغرات


أما أسامة وهبي مطلق غروب «كتب لقطة»، فيمتلك شغفاً وموهبةً في تجميع الكتب. انطلاقاً من هذه العلاقة بينه وبين الكتاب، استثمر وجود كمية كبيرة مكررة من الكتب في بيته. لم يكن يخطّط لإطلاق مشروع مماثل، لكن مع عرضه لأولى دفعات الكتب في البداية، وجد إقبالاً وبيعت سريعاً عبر مجموعات من خلال فايسبوك. لا يعرض أسامة إلا الكتب التي يحب قراءتها من فكر وأدب وسياسة وشعر. يقول لنا: «جميل أن يمارس الإنسان عملاً يحبه». لكن على الرغم من أنّ العمل والبيع عبر الإنترنت أفضل لناحية التكاليف، إلا أنّ أسامة يرغب بعد فترة في إنشاء مكتبة خارج الفضاء الإلكتروني تُعنى بالكتب المستعملة.
«لازم ضل قادرة أوصل للكتاب وضل أقدر ادفع حقه» تقول الأكاديمية والفنانة ريتا باروتا الناشطة في مجموعات المكتبات الافتراضية. في حديث مطول، تقيّم باروتا تجربتها مع المكتبات الافتراضية، فترى أنّ مجتمعنا غير قارئ، و«هنا الأزمة الحقيقية، وعلينا أن نبدأ الحديث عن أزمة قراء، قبل أن نناقش ماذا يقرأون وكيف». أما الكتاب، فيجب أن يكون في متناول الجميع من دون تقييم المجتمع كقارئ أو غير قارئ، واصفةً التصنيف بالقبيح.
الفارق بين أمس واليوم، بحسب باروتا، هو «أننا التفتنا فجأة إلى أنّ الكتاب كان موجوداً، وهذه أزمة أكبر من الأزمة». أما في ما يخص الكتب المستعملة اليوم كسوق مستجدة، فتعلّق بأنها منفتحة على قراءة هذه الكتب وشرائها كباحثة وأستاذة جامعية، «لكن مجتمعنا مجتمع متشاوف، وعلى الكتاب أن يتنقل بين الأشخاص في مثل هذه الظروف التي نعيشها».
توافق باروتا على أنّ المكتبات الافتراضية التي تعرض كتباً مستعملة، حلّت جزءاً من الأزمة وسدت بعض الثغرات من خلال المنطق التسويقي. في مقابل كل عرض، هناك طلب، والإفادة والمنفعة في هذا الإطار تطالان الطرفين. تشير إلى أنّ بعضهم يبيع الكتب ليعيل أعداداً من الناس، لكن كل من يرغب بتعميم الفائدة وبيع الكتب للفئات غير القادرة على الشراء بدون مبتغى ربحي، ليس له مكان ويتم استبعاده بشكل مقصود.
أما «مافيا الكتب» كما وصفتهم، فيعملون على تزوير بعض الكتب بنسخات ملونة كأنها النسخات الأصلية بطريقة خادعة، ولا يلاحظ عملهم إلا من قلة من المدققين والقراء. تعتبر أنّ المساحة الافتراضية أمّنت الحرية للمتلقي لكن عليه كمشترٍ (قارئ) أن يكون حذراً، وعلى التجار أن يكونوا رؤوفين بحق الناس. وعن الاستثمار في هذا المجال، توافق باروتا على أن الممتهن لهذا المجال يجب أن يكون على علاقة وطيدة بالكتب لأنّ «عالم الكتب ذو خصوصية وعلاقات واسعة مع الناس».
لا يهم ماذا وكيف وأين نقرأ، المهم أن نقرأ. ولا يهم المصدر ولا الآلية، الأهم من كل ذلك أن تبقى القراءة فعلاً مستمراً. لكنّ بيروت التي شكّلت في القرن الماضي عاصمة الثقافة والأدب والتنوير في العالم العربي، بدأت مسارها الانحداري قبل أن تأتي الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتضعها وسط تصحّر ثقافي مرعب. وما تحتاجه اليوم من ترميم بنيوي ثقافي، لا يقلّ أهمية عن عملية إعادة إعمارها لجعلها على قدر الموقع الذي احتلته في أحد الأيام.