في توليفةٍ تتحايل على الصعوبات اللوجستية والإمكانات المادية، انطلقت قبل نحو شهرٍ سلسلةُ أمسيات كلاسيكية مجّانية تتمحوَر حول كونشرتوهات شهيرة من الريبرتوار، معدّة لآلتَي بيانو، حيث الجانب المخصص للبيانو في المدوّنة الأساسية يبقى كما هو، في حين تُختَصَر المرافقة الأوركسترالية بإعداد لآلة بيانو ثانية. وراء المشروع ثلاثة عازفي بيانو مكتملين وغير متفرّغين، استغلّوا الحجر الصحي الذي عطّل الحياة خارج البيوت في الأشهر الأولى من السنة الجارية للعمل على أعمال صعبة جداً تتطلب وقتاً غير متوافر في الأيام الطبيعية.

إنهم باسل البابا وأندرو حداد ونديم طربيه ومهامهم موزّعة على الشكل التالي: العازفان الأوّلان تمرّن كل واحد منهما على عملَين، في حين تولّى الثالث الأعمال الأربعة في الجانب المخصص للمرافقة. والأعمال بدورها تُقسم إلى قسمَين، حيث الأول يضم ثلاثة كونشرتوهات (للمؤلفين برامز، رخمانينوف وبروكوفييف) تمّ الاكتفاء بالحركة الأولى من كلٍّ منها، والقسم الثاني يضم كونشرتو كاملاً (كونشرتو اليد اليسرى لرافيل)، على اعتبار أنه يتألف أساساً من بلوك واحد غير مُجَزّأ. هكذا، تولّى باسل البابا الكونشرتو الأول لبرامز والكونشرتو الثالث لرخمانينوف. أما أندرو حدّاد، فتولّى الكونشرتو الثاني لبروكوفييف وكونشرتو اليد اليسرى الذي كتبه رافيل لعازف بيانو كان قد فقد يده اليمنى في الحرب العالمية الأولى. أما ما قد يُضاف من خارج البرنامج، فمتروكٌ لظروف كل أمسية وأجوائها، مثل الموعد الأخير الذي أضيفت في ختامه مقطوعة للمؤلف السوفياتي من أصل أرمني آرام خاتشتوريان، أدّاها نديم طربيه وأتبعها بتنويعات مرتجلة على مقطوعة يختارها الجمهور، فتوجّهت الطلبات بشبه إجماع إلى ريبرتوار فيروز قبل أن يحدّد أحدهم أغنية «نسّم علينا الهوا».
اليوم السبت، نصل إلى المحطة الرابعة، حيث يقدّم الثلاثي برنامجه في «جامعة سيدة اللويزة» (المبنى القديم / زوق مصبح — كسروان) في أمسية من تنظيم الجامعة و«المركز الثقافي في عجلتون»، بعدما توقّف قطار الجولة في محطةٍ، مساء الجمعة من الأسبوع الماضي، في برج حمّود. لقد كانت محطةً استثنائية. إلى المستوى الفنّي المتقَن الذي قدّمه الشباب في الأمسية، أضيف الجو العام الذي أمّنه الحضور، إذ تألّف من جمهورَين! فالأمسية جرت في الهواء الطلق، في باحة «الكنيسة الأرمنية الإنجيلية» التي ما زالت قيد الترميم جراء انفجار كمية هائلة من العهر في المرفأ القريب. الجمهور الأساسي بدا مستمعاً بشغف، بعضه مثقّف بالمعنى الحقيقي والصحّي للكلمة (إنه التأثير الأرمني في تلك المنطقة، وهو آتٍ من تأثير الحقبة السوفياتية على البلد الأم، أرمينيا)، وقد احتشد في الباحة وتألّف من كل الفئات العمرية، بمن فيها الأولاد الصغار. تقع الكنيسة في قلب حيّ مدّمر قبل 4 آب 2020 وخلاله وبعده. أصحابها لم يخسروا شيئاً عصر ذاك اليوم، لأن ليس لديهم شيءٌ يخسرونه. حيٌّ بمقوّمات حياة تجعل هذه الموسيقى، الكلاسيكية، بعيدةً سنين ضوئية عن اهتماماته وأولويّاته الحيوية. مع ذلك، كان سكانه على السمع، بصمت، بلهفة مصدرها الذهول والدهشة، وبمتعة فطرية قد تكون آتية من استشعار نوع من أنواع الأوكسيجين الخاص، المرافق لهذه الأصوات الخارجة من آلتَي بيانو. أطفال الـ «فافيلاّ» البيروتية، تلك الـ«موزارات الصغيرة» التي شاء القدر أن تولد في دولةٍ تحفر قبر أي احتمال «موزار»، كانوا على الموعد، من دون معرفة موسيقية وتاريخية وبدون تحليل عميق آتٍ من ادعاء في أغلب الأحيان (في لبنان بشكل خاص). أطلّوا من على شرفات المنازل، واحتشدوا على الأسطح، وهي هنا، في برج حمّود، منازل يتساكن عليها الناس وخزّانات المياه وكابلات غير معروف لا مصدرها ولا مطافها ولا دورها. كان المنظر رهيباً ومؤثّراً. سريالياً بعض الشيء. بقليل من الخيال، يمكن النظر إلى هذا الجمهور، الذي أتت الحفلة إليه بدلاً من أن يذهب إليها، كأنه الأكثر اقتداراً مادياً وقيمةً اجتماعية. ففي الصالات الفخمة، تلك الأماكن العالية المطلّة على المسرح، تُسمّى «لوج» (ومنها تأتي عبارة «باللوج» للدلالة على الثر اء) وهي مخصّصة لكبار الشخصيات. لكن «اللوج» في النتيجة مسألة معيار. ففي معيار الطيبة وجمال الروح ونقائها، هذا الصبي، الذي استند لنحو من ساعتين على حافة سطح البناية شبه المتداعية، وصفّق بيديه الصغيرتين وقلبه الأبيض، هو «باللوج»… لا بل إنه جلالة الملك وما نحن إلاّ حاشيته.
* أمسية باسل البابا وأندرو حداد ونديم طربيه: 7:30 مساء اليوم «جامعة سيدة اللويزة» (المبنى القديم / زوق مصبح — كسروان)