بلد منكوب على الأصعدة كافةً، فكيف بالأحرى حين نتحدّث عن المشهد الثقافي، الذي يعمل باللحم الحيّ من أجل الاستمرار؟ إذا تحدّثت مع المبدعين المسرحيين، سترى أنّهم يواصلون مشاريعهم بمنح من هنا، وتقليص مصاريف من هناك، رغبةً في الاستمرار رغم قتامة المشهد. لكن ماذا عن قطاع مستوردي وموزّعي الأفلام التجارية التي تشهد في العادة إقبالاً كبيراً؟ مع إعادة فتح الصالات السينمائية بعد أكثر من عام على الإغلاق بسبب تداعيات وباء كوفيد 19، ها هي التحديات تقف أمام استعادة هذا المجال عافيته. انهيار العملة وتضرّر بعض الصالات من انفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية، والتحدّي الصحي الذي يفرضه الوباء، كلّها تقف عائقاً أمام المستوردين والموزعين وأصحاب الصالات، والرواد العاجزين ــ أكثر من أي وقت مضى ـــ عن دفع تذكرة الدخول التي باتت تراوح حالياً بين 40 و80 ألف ليرة لبنانية. تساؤلات كثيرة تُطرح على هذا القطاع: أي مسار سيسلكه مستوردو وموزعو الأفلام؟ هل هناك آلية لتعويض خسائرهم؟ وماذا عن البدائل التي يمكن اللجوء إليها؟
أربعون عاماً قضاها مدير الإنتاج والبرمجة في مجموعة صالات «أمبير»، بسام عيد، أحد أقدم العاملين في مجال شراء وتوزيع الشرائط السينمائية، ولم يشهد على أزمة مماثلة. يقول لنا: «ربما في عام 1982، شهدنا حالةً مماثلة، بعدما قفز الدولار وقفزت معه أسعار بطاقات السينما». ينتمي بسام كغيره، إلى جيل عايش الحروب والأزمات المتلاحقة على البلد، وصار يترحّم على تلك الأيام. كان التحدي في عزّ أيام الحرب، وفق ما يقول، أن تبقى العروض السينمائية «شغالة»، بين «بيروت الشرقية» و«بيروت الغربية»، مناصفةً وبلا أي تفرقة، وتوزيع الأشرطة على صالات العرض في المنطقتين. يرفض الموزع السينمائي اليوم، مناشدة أحد، رغم أنَّه يعيش ويرى استفحال الكارثة النقدية، وانعكاساتها على القطاع السينمائي، لأنّه «لا تندهي ما في حدا».
شراء الأفلام الهوليوودية مستمرّ، لأنها تصل إلى السوق العربية من بوابة الخليج


أزمة وباء كوفيد-19، التي سبقت الأزمة المالية والاقتصادية في البلد، أغرقت القطاع أكثر فأكثر. بعد حوالى شهر على افتتاح صالات السينما في لبنان، لا يزال أصحاب الصالات يعيشون تبعات الأزمة الصحية التي تظهر مشاكلها تباعاً. تبدأ تسعيرة «التيكيت» بـ 40 ألف ليرة لبنانية، وتصل إلى 80 ألف ليرة لبنانية لمقاعد الـ VIP، بعدما كانت البطاقات تبدأ من 15 ألف ل.ل في السابق. التزام الصالات بالتباعد الاجتماعي، وتقليص قدرتها الاستيعابية، أمر أثّر على الإيرادات أيضاً. الجيّد حتى الآن، أن استيراد الأفلام من هوليوود، لا يزال قائماً. بحكم أن الموزعين اللبنانيين، ومنهم عيد، يمونون على بعض الشركات المصدرة للأفلام في الشرق الأوسط. بعد أن يصل الفيلم إلى المنطقة العربية، يتم التوافق على آلية بين المستوردين والموزعين اللبنانيين، تقتضي تقاسم الأرباح. إلا أنه إذا بقي الإقبال على مشاهدة الأفلام في لبنان على هذا النحو، فمن الممكن أن يتوقف المنتجون عن عرض أفلامهم في البلد، باعتباره سوقاً خاسراً، وغيرَ مشجعٍ لتحقيق الإيرادات. ومن المحتمل وضع لبنان على خريطة البلدان المنكوبة، وبالتالي، عزله عن محيطه. لا تقف شراسة الأزمة عند هذا الحدّ، إذ إن شبح الدولار يخيّم على أصحاب الصالات السينمائية. مثلاً، أي صيانة لماكينة عرض الشريط السينمائي، قد تبلغ حوالى 2000$، ناهيك بأن الشرائط السينمائية تصل إلى لبنان من خلال Hard Disk الذي يبلغ سعره 150$ (حوالى 2 مليون ونصف مليون ليرة لبنانية)، أي ما يعادل ثمن 50 «تيكيت»، بالإضافة إلى أتعاب الموظفين، وسعر مادة المازوت، وضرائب وزارة المالية.

انخفاض مرعب
يطلعنا بسام عيد على إحصاءات صالات «أمبير». بلغ مجموع بيع بطاقات السينما في شهر حزيران (يونيو) 2021 حوالى 49.500 بطاقة، في حين أن عدد البطاقات التي بيعت في حزيران (يونيو) عام 2019، باعتبار أن في 2020 أُغلقت صالات السينما جراء وباء كوفيد-19، بلغ حوالى 204.700 بطاقة في صالات عرض «أمبير». تشير الأرقام إذاً، إلى انخفاض مبيعات الصالات السينمائية إلى حوالى ثلاثة أضعاف.
اليوم إلى أين يمكن أن يتجه قطاع مستوردي وموزعي الأفلام السينمائية في لبنان؟ وهل من الممكن أن يتوقف عن العمل؟ في بلد مشرّع على مصراعيه للتقلّبات الأكثر سوراليةً، لا يمكن التنبؤ بمصير صالات عرض السينما في لبنان. يرفض القائمون عليها، أن ينبسوا بكلمة عما يمكن أن يؤدي إليه الوضع القائم، لكن الاحتمالات بأكملها مفتوحة.


في موضوع الأفلام الفرنسية فإنها وبحسب شركة سليم رميا (SR&CO)، تعتمد على السوق اللبناني، وفي حال ضربت هذه المعادلة فإن خطراً سيهدد هذه الأفلام شراء وتوزيعأً. فهل أفلام هوليوود، التي تحظى بشعبية عريضة وواسعة في البلد، على الطريق؟ يوضح إيزاك فهد، مسؤول البرمجة والإعلانات والتوزيع لصالات «غراند سينما» في لبنان، أننا «نعيش حالة دقيقة وحسّاسة، تتطلّب منا العمل يوماً بيوم، وعدم التكهّن بما يمكن أن يحصل في المستقبل. لأنه إذا تم النظر في اجتراح الحلول، فقد يصل بنا الأمر مع تعاظم الخسائر، إلى إقفال صالات العرض بأكملها، نتيجة عدم قدرة الجمهور على شراء البطاقات، وعدم إيفاء الأرباح اللازمة لتعويض سعر شراء حقوق الفيلم وتوزيعه. حتى الآن، الموزعون ومنهم شركة (SR&CO)، مستمرون في شراء الأفلام من هوليوود، لأنها تصل إلى السوق العربية من بوابة الخليج تحديداً، لكن من المرجح، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، أن تتوقف شركة التوزيع اللبنانية عن جلب الشرائط السينمائية الهوليوودية إلى لبنان، ووضعها على لائحة الأسواق الخاسرة.
مشهدان قاتمان يخيّمان على صالات العرض السينمائية اللبنانية، من «أمبير»، و«غراند» وغيرهما. تأتي الحصيلة على الشكل التالي. صالات خاوية من الجمهور، وأرباح ضئيلة يحققها الموزعون وأصحاب صالات العرض. ظروف صعبة على الصعد كافة، قد توقف عرض الأفلام السينمائية الأجنبية والأميركية. بحسب فهد، فإن الإقبال على مشاهدة الأفلام السينمائية انخفض عن عام 2019 بنسبة 80% في صالات «غراند سينما». يضيف: «لا نستطيع حسبان الخسائر، حتى اليوم مستمرون، وغداً لا أفق فيه. لا يمكن بناء الاستراتيجيات والخطط في لبنان، ولا يمكن الاستمرار في عرض الأفلام الأجنبية، في ظل الكوارث التي تحصل في البلد». الواضح من كلام فهد، أن الأمور قد تتجه إلى صورة قاتمة، يتوقف فيها لبنان عن شراء وتوزيع الأفلام الهوليوودية وغيرها من البلدان، يتبعها إقفال صالات العرض السينمائية.

عن العزلة والبدائل
يكثر الحديث بين مستوردي وموزعي الأفلام الأجنبية، عن أن لبنان متّجه صوب «الانعزال الثقافي»، بسبب تعثر وصول الأفلام الأميركية وغيرها إلى لبنان، بسبب أزمة الدولار. ووسط غياب الخطط والاستراتيجيات من قبل الموزعين، والمستوردين، وأصحاب الصالات، لا بسبب تقصيرهم وإنما بسبب التخبطات التي يعانون منها، يأتي الحديث عن البدائل. في ظلّ غلاء أسعار بطاقات السينما، كانت منصات الـ Streaming ملجأ اللبناني لمشاهدة الأفلام. لكن المصارف في لبنان، ضيّقت الخناق على كل تفاصيل الحياة، ما حال دون تمكّن اللبنانيين من دفع الدولار ثمن اشتراكهم في أي منصة لعرض الأفلام. يلجأ «أحمد»، أحد طلاب السينما في الجامعة اللبنانية، إلى مشاهدة الأفلام على منصات مقرصنة مليئة بالفيروسات، قد تطيح بجهاز الحاسوب خاصته. «لا بديل آخر لدينا، فهذه المنصات هي للطبقة البروليتارية من قبل أزمة الدولار، فما بالك الآن... فأين نشاهد السينما؟» يسأل أحمد. منذ مدة، نظمت «التنسيقية الثقافية» في بلدية تفاحتا الجنوبية، «سينما الهواء الطلق»، حيث عُرضت إحدى التحف من السينما الكلاسيكية العالمية تعزيزاً من التنسيقية لدور السينما وقدرتها على التغيير، وزرع بذور الوعي الثقافي للناس، لمحاولة رفع الذوق الفني لديهم. كذلك، منذ مدة نُظم «مهرجان كابريوليه للأفلام القصيرة» في الهواء الطلق في الجميزة. فلماذا لا يتم اللجوء إلى مبادرات كهذه ومشاريع مماثلة، على مستوى الوطن؟
إن عدم القدرة على استيراد وتوزيع الأفلام السينمائية وعرضها في الصالات اللبنانية، ليس أمراً سهلاً وبسيطاً، خصوصاً أنّ هذه العجلة الاقتصادية يعيش عليها كثيرون من المواطنين، إلى جانب توفيرها مروحة متنوّعة من الأعمال السينمائية وتشكيلها فسحة ترفيهية ضرورية ومطلوبة. إلا أنّ استعمال تعبير «الانعزال الثقافي» ــ الوارد على ألسنة الموزّعين والمستوردين ــــ لا ينطبق على هذه الحالة. ترى المخرجة المسرحية والباحثة والأستاذة الأكاديمية ماريا باخوس، أن «الانعزال الثقافي» يحدث عندما لا يتمكن الأفراد في دولهم، من تقديم قيمة مضافة للثقافة الإنسانية والفن العالمي. فأي مجتمع مأزوم، عاجز عن إنتاج فكر أو فن أصيل، يكون منعزلاً ثقافياً. لذلك، فإن انعزال الفرد ثقافياً، يتحقق عندما يكون غير قادر على فهم نفسه وتقبلها. ما يحقق الانعزال لديه. هذا ما يجعله غير قادر على التعرف إلى هويته بعمق، ما يعزز العصبية عنده، ويحوله إلى حيوان استهلاكي يتخلّى عن ميزته الإنسانية. «إن أي مجتمع يقرر عدم المساهمة في الإنتاج الفني السينمائي والعالمي، ويكتفي بالاستهلاك الثقافي، يكون غير قادر على اكتشاف ذاته، وبالتالي غير مخوّل لتلقي فنون الثقافات الأخرى». تشير الباحثة والأكاديمية في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، إلى أن لبنان حتى لو بقي يستهلك الأفلام الأجنبية ويعرضها أم توقف ذلك، فإنه معزول ثقافياً. نستحضر من خلال كلامها مثلاً، تجربة السينما الإيرانية، التي وصلت إلى العالمية، وأبدعت في المدرسة السينمائية الواقعية، وفرضت نفسها على خارطة الإنتاج العالمي السينمائي، رغم ما تتعرض له إيران، من حصار وعزل على أكثر من صعيد.
«في عام 1982، شهدنا حالةً مماثلة، بعدما قفز الدولار وقفزت معه أسعار بطاقات السينما» (بسام عيد)


لا تخفي باخوس، خطورة الانعزال الثقافي في لبنان، خاصةً أنَّ الفنون وتحديداً السينما، تنبع من تجربة إنسانية حقيقية وعميقة، يعبر فيها الفنانون عن جوهرهم الحقيقي في طريقة مكثقة، وبلغة عابرة للزمان والمكان، ويتشاركونها مع الآخرين. نحن، بحسب ما تقول باخوس، نعاني من انعزال ثقافي قديم، لأننا لم نستطِع تأسيس فنون وتيارات وتوجهات فنية، إلا بجهود خاصة وفردية، فلم نستطِع تأسيس سينما لبنانية، بل لدينا سينمائيون بدون هوية. معنى ذلك بشكل أوضح، أن لبنان لن يكون معزولاً ثقافياً، بمجرد أن الأفلام السينمائية قد تتوقف عن الوصول إليه، وإنما انعزال لبنان عن العالم، بدأ بعد إثبات أنه غير قادر على خلق الجمال السينمائي، ومشاهدته في الإنتاج العالمي.
تؤكد باخوس، أن مراحل تغيير نمط الاستهلاك الفني تتجلى في محاور عديدة، أبرزها، تعزيز الساحات والفضاءات العامة للنقاشات الثقافية، تعزيز دور الإعلام في الإضاءة على الحياة الثقافية والفكرية، والتوعية في نفوس الأهالي والأطفال أكاديمياً، لتصبّ هذه الجهود، في إطار التمييز بين الأفلام السينمائية الاستهلاكية، والأفلام ذات القيمة الفكرية والفنية، بخاصة أنّ بعض الأفلام منها ما يؤسّس لحضارة إنسانية عظيمة، لكن الأكيد أن غالبيتها الساحقة، فيها أجندات سياسية واقتصادية، وأهداف تجارية.
«نحن متوهمون بأننا منغمسون ثقافياً، في وقت أننا متلقّون سلبيون ومستهلكون». إن الصيام عن النهم الاستهلاكي للسينما وإنتاجاتها، من شأنه أن يعيد النظر في بعض التحف السينمائية، لإعادة عرضها ومقاربتها بعين جديدة، إن لم يكن عرض الأفلام في الصالات، قد يكون الهواء الطلق ملجأً لعرض الأفلام، وتنظيم حلقات نقاش حول الأبعاد الفنية والفكرية للفيلم. «إن الأزمات تؤسس نهوضاً» تشير باخوس، التي تضيف: «لحظة الأزمات قد تكون مؤلمة للشعوب، إلّا أنه إذا تصرف الأفراد بطريقة فعالة وإيجابية، يمكن تأسيس نهضة ثقافية جديدة». يمكن الاستنتاج أن هذا أحوج ما نكون إليه، تأسيس سينما لبنانية خالصة، مترافقاً مع وعي وذوق فنيين رفيعين، لدى الجمهور اللبناني.



آخر الإنتاجات


المتصفّح لصفحات الصالات السينمائية في لبنان على فايسبوك كما لمواقعها، سيلاحظ أنّها تعرض حالياً آخر الإنتاجات الهوليوودية و«البلوكباستر»، كما تروّج لأعمال كثيرة منتظرة تزامناً مع طرحها عالمياً. على سبيل المثال، سيُطرح الأسبوع المقبل آخر سلاسل مارفل «الأرملة السوداء» (إخراج كيت شورتلاند ـ بطولة سكارليت جوهانسن)، إلى جانب أفلام أخرى مثل سلسلة ديزني «جانغل كروز». وللسينما المصرية التجارية حصّة مع فيلم «مش أنا» (إخراج سارة وفيق ــ بطولة تامر حسني وحلا شيحة...). من جهتها، حافظت «أمبير بروميير» على فسحتها المخصصة لبعض الأفلام المغايرة المتوّجة في «المهرجانات» مثل «نوماندلاند» الذي فاز بجائزة أوسكار أفضل فيلم، ونالت نجمته، فرانسيس مكدورماند، جائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخيرة منه. إذاً، ما زالت العجلة مستمرّة رغم كل التحدّيات. يبقى أن يستعيد المشاهد اللبناني وتيرته وعادته في ترك منصّات الستريمينغ أو القرصنة والذهاب إلى الصالة، ولو أنّ هذا الطقس قد يشهد تقلّصاً بسبب سعر تذكرة الدخول.