يبدأ «بيروت المحطة الأخيرة» (2029 ــ عُرض قبل أيام ضمن مهرجان «شاشات الواقع») للبناني إيلي كمال كما ينتهي، وما بين البداية والنهاية اعترافات شخصية ممزوجة بقصة بحدود الشرق الأوسط، واللقاء طبعاً في بيروت. رحلة تأملية ذاتية وما تبقّى من ترسبات مرحلة طفولة ترعرعت في ظلّ الحرب وشبّت بعد انتهائها، وجغرافية على سكة حديد لبنان.
من فيلم «بيروت المحطة الأخيرة»

بضمير المتكلم، يسرد إيلي قصته، وبكاميراته يحكي قصة أخرى. يكلمنا عن طفولته في بيروت الشرقية وشبابه في بيروت الغربية، بينما تجول الكاميرا على سكة الحديد وأبنيتها ومحطاتها المغطاة بالعشب والتي كانت شاهدة على أحداث المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى. بطموح كبير، حاول إيلي المزج بين تقلبات هذين الخطين. كرّر نفسه مراراً وتعثر خلال المشي على العشب الذي احتل سكة الحديد وما تبقّى من عرباتها وأبنيتها المهجورة، كما يتعثر لبنان دائماً وينهض من تلقاء نفسه. امتنع إيلي عن الغوص في حكايته الشخصية. لم يدعونا للتوغّل عميقاً، لم نعرفه تماماً ولم يكشف الكثير، فبقي على حدود جسده. بقينا أغراباً كغربة العربات والسكة المهجورة. لم يسأل نفسه شيئاً ولم يدعونا للسؤال، ولم نهتم كثيراً بما يخبرنا. أما القصة الثانية، فهي قصة سكة الحديد، منها انطلق إيلي لكنه لم يصل إلى أي مكان. المعلومات المكتوبة والصور الأرشيفية كانت بديهية، وجاءت على شكل درس تاريخ مدرسي مملّ. معلومات وحقائق نعلمها، حتى الأحداث التاريخية والبلدان التي استعملت واستعمرت هذه السكة معروفة، لم يأت بأي جديد أو سر أو حقيقة لا نعلمها. حتى طريقة مزج القصتين، إحداهما في الأخرى كانت جوفاء، إلى درجة أننا نتساءل عن سبب مزج القصتين، ما دامت العلاقة بينهما لا تتعدى لعبه على سكة الحديد عندما كان طفلاً. هذا السبب كان ليكون مقنعاً جداً لو أن إيلي غاص فيه أكثر.
تجول الكاميرا على سكة الحديد التي كانت شاهدة على أحداث المنطقة منذ الحرب العالمية


جميلة هي صورة إيلي، يعرف تماماً كيف يختار مشاهده، فخلق جمالاً من خراب. وهنا ثقل الفيلم، لو أن المخرج في فيلمه الأول تغاضى عن القصة الذاتية وتركنا مع التاريخ والمشاهد والسكة والمباني وأصواتها، لكان الفيلم عرّج على سكة أخرى أكثر إثارة. الصورة غمرت الصوت والقصتين معاً. لكن لم يكتف إيلي بذلك، بل حاول اللعب بالصورة أكثر على طريقة المصور الإيرلندي ريتشارد موسّ، لوّن صوره بأشعة تحت الحمراء، فحوّل النبات إلى أحمر ساطع، والنتيجة صورة جميلة ولكنها لا تستحق العناء. صورة إيلي الحمراء جميلة، ولكن ليست لها دلالة رمزية، وإن كانت دلالتها الدم الذي أسيل في المنطقة؛ فهذا بديهي نوعاً ما ولا يحتاج إلى أي رمز مرئي.
في فيلمه الأول، قدم إيلي كمال «مقالاً وثائقياً»، وهو أصعب ما يمكن لأي أحد صنعه، بخاصة في فيلمه الأول. هو جريء، لكنّه لم يجد بعد اللغة السينمائية التي يمكن أن يتميز بها. شريطه ألبوم صور ومشاهد ممتاز، لكن كسينما ما زال يبحث عن المحطة الأخيرة.