حديثٌ كثير يدور هذه الأيام عن «الإصلاحات» التي تشهدها السعودية في المجال الديني، وعن تخلّيها عن الوهابية وشيوخها وسيرها في اتجاه الحداثة والتنوير حسب رؤية ولي العهد محمد بن سلمان. ثمة بالفعل إجراءات اتّخذت في السنوات الأخيرة توحي بأن هناك تغييراً يجري. ولكن هذه الإجراءات هي في أغلبها شكلية واسترضائية هدفها نيل القبول الغربي لصورةٍ يحاول وليّ العهد رسمها لسعوديةٍ معتدلةٍ حداثيةٍ بعيدةٍ عن فكر التعصب الديني المنتج للإرهاب. السماح للمرأة بقيادة السيارة، وفتح دور السينما، والحفلات الغنائية، والفعاليات الترفيهية، ومباريات الملاكمة... كلها لها علاقة بالصورة أكثر من المضمون الذي لا يزال على حاله من حيث المرجعية الوهابية للدولة كلها. أنظمة القضاء والتشريع والقوانين والتعليم لم تتغيّر.وسوف نتكلم هنا عن قناتين هما «صفا» و«وصال» اللتان تبثّان على مدار الساعة عبر القمرين الصناعيين نايلسات وعربسات مادة تكفيرية صارخة وتحريضية فجة موجهة ضد المسلمين الشيعة تحديداً، وبأسلوبٍ منحط مليء بالشتائم والتهديدات. ومن المؤكد أنه لو عُرض ما تبثه هاتان الفضائيتان على القضاء الدولي، أو أي محكمة لحقوق الإنسان، لتمت إدانة المسؤولين عنهما فوراً وأحالتهم على السجن بسبب انتهاك معايير الإعلام المتحضر وجرائم الكراهية (Hate crimes) والتحريض.
ورغم أنّ هاتين الفضائيتين ليستا رسميتين سعوديتين ولا تعلنان عن مصدر تمويلهما، بل تكتفيان بالقول بأنّ التمويل يأتي من «تبرعات» المشاهدين والمحبين، إلا أنّه لا يمكن للسعودية أن تنأى بنفسها عنهما أو تدّعي عدم المسؤولية عن المواد التي تُبث فيهما. فالإمكانيات المادية الكبيرة للقناتين واضحة تماماً، عدا مكاتبهما المعروفة في القاهرة والرياض، وبثهما من خلال أقمار صناعية عربية تسيطر عليها السعودية.
تواصل قناتا «صفا» و«وصال» بثّ مواد تحريضية مذهبية بدون أيّ رادع


ولقطع الشك باليقين عن مسؤولية السعودية، نعرض هنا أسماء بعض الشيوخ الذين ظهروا ويظهرون باستمرار على قناتي «صفا» و«وصال»: عثمان الخميس، عدنان العرعور، محمد العريفي، مصطفى العدوي، لطف الله خوجة، عبد العزيز الطريفي، سعد بن تركي الخثلان، سعد بن عبد الله الحميد... وهؤلاء كما لا يخفى ينتمون إلى المؤسسة الوهابية الرسمية السعودية، ولا يمكن أن يظهروا على قنوات فضائية بدون موافقة وإذن من السلطات.
ومن بين البرامج المميزة والمعدّة بإحكام في قناة «صفا» برنامج اسمه «قرار إزالة» مخصّص لمهاجمة جميع الأعلام الذين ينتمون إلى خيمة الإسلام الواسعة ممن لهم آراء وأفكار تنويرية /حداثية/ تجديدية أو ببساطة مختلفة عن المدرسة السلفية /الوهابية. وهذه أسماء بعض الذين استهدفهم برنامج «قرار إزالة» وخصص حلقات كثيرة للردح لهم: عدنان ابراهيم، علي منصور كيالي، الحبيب الجفري، محمد شحرور، ابراهيم عيسى، اسلام بحيري، حسن بن فرحان المالكي، يوسف زيدان، سيد القمني، فاطمة ناعوت، احمد صبحي منصور، احمد عبده ماهر، يوسف الصديق. أي أنّ هذا البرنامج يقوم بالبحث والتحري في جميع أنحاء العالم الإسلامي عن أي شخص يدعو إلى مواكبة العصر وتجديد الخطاب الديني عن طريق تنقية التراث وتأويل النصوص بشكل يوائم بين الدين ومعايير زماننا... ليقوم بسلخه حياً والرد عليه في حلقاتٍ طويلةٍ لمكافحة الجهد التنويري والحداثي الذي بذله، وفي النهاية تكفيره وإخراجه من الملة. «قرار إزالة» هو باختصار حربٌ ضروسٌ معلنة على الاستنارة والعقل والعلم، وكفاحٌ من أجل بقاء الإسلام والمسلمين في حالة غربةٍ فكريةٍ وقطيعةٍ مع حضارة القرن الحادي والعشرين.
لو كانت السعودية جادة في الاتجاه نحو التنوير الحقيقي لكانت الخطوة الأولى التي ستفعلها هي إغلاق «صفا» و«وصال» وأخواتهما من قنوات التعصب والكراهية. ولو شاءت السعودية ذلك، لما احتاج الأمر أكثر من عشر دقائق لإصدار قرار الإغلاق وتنفيذه.
*كاتب وباحث من الأردن