I ــ شارع جورج حدَّاد، الصدفةُ، والحدودُ، والبوَّابة
الصدفة
ابتدأت الحرب الأهلية في لبنان، يوم الأحد في 13 نيسان (أبريل) 1975، في ما عُرف في حينه، بمجزرة «بوسطة عين الرمانة». استمرَّت الحرب، وقد سُمّيت حرب السنتين، حتى منتصف فصل الربيع من عام 1977. اعتقد أصحاب القرار في حينه، أن الحرب انتهت، وقد حان وقت إعادة إعمار ما تهدَّم في وسط بيروت. فشكَّلوا لجنة، أناطوا بها دراسة حجم الأضرار، وحدود انتشارها، كما كلَّفوها، بإعداد المخطَّط التوجيهيّ العام لإعادة الإعمار، والنظام التفصيليّ العائد له.
تألَّفت اللجنة من: المعمار والمخطّط الراحل بيار الخوري، المعمار والمخطّط الراحل أيضاً، خليل خوري، المعمار والمخطّط أسعد رعد، الزميل، والصديق العزيز، الذي يعيش اليوم مهاجراً في كندا. تساعدها لجنة أخرى مؤلفة من: المعمار والمخطِّط والنقابيّ، الراحل عاصم سلام، والمهندس محمد غزيري، رئيس مجلس المشاريع الكبرى لمدينة بيروت، في حينه، وفريق من مهندسي «دار الهندسة»، أداره آنذاك المهندس الراحل أيضاً هنري إده. ويمثّل المهندس هنري إده في مسألة إعادة إعمار وسط بيروت، أحد عناصر الصدفة. إذ عاد، بعد مؤتمر الطائف، ومع الرئيس الراحل رفيق الحريري شخصياً، في أوائل التسعينات، ليدير فريق دار الهندسة مجدّداً، ويكون الأب الروحي والمحرَّك، والمنظّر، لمشروع سوليدير، الذي نعيش اليوم نتائجه المدمّرة. وقد رافق عمل اللجنة، وساعدها، بالمساهمة المباشرة، وبالوثائق، وبالتقنيَّات، وإعداد المخطَّط التوجيهيّ وإعداد النظام التفصيليّ، فريقٌ من المختصّين، من المحترف الباريسي للتنظيم المديني، (Apur)، المشهور عالمياً.
الواجهة الشمالية ـ تراث محطّم مهجور وحجر من الخرسانة بديل

المخطَّط التوجيهي العام، والنظام التفصيلي، لإعادة إعمار وسط بيروت التاريخي. الصدفةُ تتأكد
أعدَّت اللجنة، بمساهمة جميع الأطراف الذين شاركوها في العمل، المخطَّط التوجيهي والنظام التفصيلي، لإعادة إعمار وسط بيروت، انطلاقاً من حجم الأضرار التي لحقت به، ومن حدود تمدُّدها في حينه. صدر مرسوم المصادقة على المخطَّط وتفاصيله، بعد مخاضٍ طويل، في منتصف ربيع عام 1978. ونشرته جريدة «النهار» في كامل صفحتها الأولى، يوم السبت في 6 أيار (مايو) 1978، أيضاً. تشدّد الخطَّة، في الوثائق التي نشرتها اللجنة في كتابٍ أنيق، على الأهمية المطلقة للحفاظ على هُوية المدينة، خاصَّة وأن المراد إعماره، هو بيروت التاريخية، لا بيروت التجارية كما يزعمون. كما تشدّد على اعتماد الترميم، وسيلة أولى لإعادة الإعمار، حفاظاً على روح المدينة التاريخية، وعلى عدم توسيع رقعة الهدم...
نقرأ في الخريطة الوثيقة، المقرَّة بمرسوم، صادر عن مجلس الوزراء كما سبق وذكرنا، أن حدود منطقة إعادة الإعمار بكل أبعاده (تدعيم، وترميم، وإعادة إعمار)، تبدأ من منطقة الفنادق غرباً (بولفار الرئيس سليمان فرنجية) إلى شارع جورج حداد شرقاً. مع حدودٍ إلزاميَّة موضوعياً، هي جادة الرئيس فؤاد شهاب جنوباً، وفي الشمال، البحر. ما يهمُّنا الآن هو، أن المعانيات الميدانيَّة، المؤكَّدة في الخريطة المذكورة، تشير إلى أن الحرب الأهليَّة، لم تتعدَّ شارع جورج حداد إلى الشرق. والحرب التي استمرَّت، حتى مؤتمر الطائف عام 1989، لم تجرِ في قلب بيروت، بل في داخل المدينة، على امتداد خطّ التماس (طريق الشام، وفي بعض الأطراف، وفي الشياح وعين الرمَّانة ومحلَّة صفير، وغيرها). وأنَّ الصدفة المكرَّرة، جعلت من شارع جورج حدَّاد حدوداً، حمت النسيج المبنيَّ التراثيَّ في شارع غورو - الجميزة، وفي شارع باستور الرميل، وفي المدوَّر.
شارع جورج حداد حدود!؟ المقصود بالحدود هنا، هو بالتأكيد حدود منطقة الدراسة، أي منطقة إعادة الإعمار، بكل درجات التدخُّل مهنيَّاً، تدعيماً، ترميماً، أو إعادة إعمار. وليس حدوداً لفصل قلب المدينة عن جسدها، غرباً، وشرقاً، كما فعلت شركة الهدم والردم، «سوليدير».

شركة الهدم والردم سوليدير، وتوقُّفها الإلزاميُّ عند الحدود: شارع جورج حداد، وفيه بوابة شارع غورو - الجميزة
اجتياح إسرائيل لمدينة بيروت في عام 1982، مسألة بالغة الأهمية والتأثير، إلا أنها لا تدخل في نطاق بحثنا هذا. ما يهمنا، هو أن شركة الهدم والردم (سوليدير)، بكل ثقلها التدميريّ والكارثيّ، اضطرت إلى اعتماد حدود مخطَّط عام 1978، حدوداً إلزامية لنطاق عملها. وزنَّرت نطاق عملها ضمن الحدود الثلاثة: شارع جورج حدَّاد شرقاً، وجادة الرئيس سليمان فرنجية غرباً، وجادة الرئيس اللواء فؤاد شهاب جنوباً، والبحر في الشمال، مجالاً وحيداً للتوسع، بتدمير علاقة بيروت ببحرها، وبالردم.
وتأتي الصدفة مجدداً، بالراحل المهندس هنري إده منظّراً، ومدافعاً شرساً عن نهج «سوليدير»، الكارثيّ المدمّر.
قال أمام المسؤولين، وفي منتدياتٍ مختلفةٍ، إنّ مشروع إعادة إعمار وسط بيروت، المزروك بالضرورة ضمن الحدُود الثلاثة المذكورة، يقوم على ثلاثة محاور:
ــ المحور الأول: محور ساحة الشهداء، مفتوحة على البحر، موسَّعة باتجاه الشرق.
ــ المحور الثاني: محور السلطة التشريعية، المار بالضرورة في قلب ساحة النجمة أمام البرلمان، والممتدّ بعيداً في البحر، عبر شارع اللنبي.
ــ المحور الثالث: محور السلطة التنفيذيَّة، وهو محورٌ بصريٌّ، ينطلق من السراي الكبير، ويجعل مقر رئيس مجلس الوزراء، مشرفاً على كلّ ما يُبنى ضمن هذا المحور البصري.
ما يهمنا في هذا البحث، هو أن شركة الهدم والردم «سوليدير»، هدمت سينما «الريفولي» وكل ما يقع خلفها، فاتحة مجالاً بلا حدود، يصل إلى القاعدة العسكرية البحرية، بجانب المرفأ.
وأنها هدمت كل النسيج المبني في الساحة، من أعلاها جنوباً، إلى أسفلها شمالاً، وإلى ما بعده أيضاً، وصولاً إلى جادة الرئيس شارل الحلو. وتوقَّفت بالضرورة عند الحدود المقرَّرة منذ عام 1978: شارع جورج حداد.
لا تملك بيروت اليوم، ساحةً رئيسةً، واضحةَ الحدودِ، توحّد ناسها، وترمز إلى وحدة الوطن. في وسط بيروت اليوم، مجالٌ فسيحٌ فارغٌ بلا حدود، يشطر المدينة، يمزّق وحدة ناسها.
لا تملك بيروت اليوم، ساحةً رئيسةً، واضحةَ الحدودِ، توحّد ناسها، وترمز إلى وحدة الوطن


في وسط بيروت اليوم، يختنق نصب الشهداء، وسط حشر السيارات، في المجالات التي تحوطه، وقد تحولت إلى موقف للسيارات، يديره من يسمَّى راهناً «ﭬاليه باركنغ» (Valet parking)، لا ندري من هو مرجعه. شارع جورج حدَّاد هو الحدود. حدود تدمير المدينة، وتمزيقها. شارع جورج حدَّاد هو اليوم، حارس التراث المبني المتراكم، على جانبي طريق طرابلس، في شارع غورو - الجميزة، طيلة قرنين من الزمن. من عام 1840، حتى يومنا هذا. في وسط شارع جورج حداد، البوَّابة، بوَّابة شارع غورو في الجميزة.

II ـــ الأربعاء، في 5 أيار/ مايو 2021، في الجميزة، بعد تسعة أشهر على عصف النكبة:

البوابة أولاً: فجوة العبور إلى الماضي. نتحدَّث عن بوَّابة، لأننا ننتقل عبرها من مجالات فارغة مدمَّرة، إلى أماكن حافظت على هويتها التاريخية المتراكمة عبر قرون.
بالأمس، منذ ربع قرن تقريباً، أي قبل كارثة «سوليدير»، كنا نسلكُ طريق طرابلس، بدءاً من الزاوية الجنوبيَّة الشرقيَّة لساحة الشهداء. نسير في سوق النجارين. نتزوَّد، بسندويش من محلاَّت مسلّم. نتابع السير، تحوطنا المباني من الجانبين. نتوقف لحظةً عند فلافل فريحة. نتابع السير الممتع. في الصيفي وما بعده دكاكين، فوقها مساكن في طوابق. لا أنسى الاحتفال برأس السنة مع أصدقاء، في أحد البيوت هناك. نتابع السير. الامتداد المبنيُّ على جانبَي طريق طرابلس، طويل وممتعٌ، أكرر. «شارع غورو - الجميزة»، هو جزء متحفيٌّ، من هذا الطريق المستمرّ داخل بيروت، عبر شارع مار مخايل، وشارع أرمينيا، وصولاً إلى الجسر، فوق نهر بيروت.

البوابة؟ عن أية بوابات نتحدث!؟ المنبسط، الذي يستمرُّ محاذياً تلة الأشرفية، احتلَّه طريق بيروت – طرابلس منذ قرون، كما سبق وذكرت. والنسيج المبنيُّ المتواصل والمتلاصق غالباً، على جانبيّ الطريق، احتل الأمكنة منذ قرون أيضاً، من دون بوابات ومع الكثير من الفجوات، نحو تلة الأشرفية صعوداً، ونحو شارع باستور في الرميل نزولاً، ورسم واجهتي الطريق، الجنوبية، والشمالية. في جغرافيَّة الأمكنة، الثابت هو المكوّن الرئيس. تلَّة الأشرفية، هي التلَّة، رغم عصف الانفجار الذي ضربها. والطريق إلى طرابلس، هو الطريق.
الجديد، هو بالتأكيد من فعل شركة الهدم والردم «سوليدير». توقَّفت جرَّافات إعادة الإعمار عند شارع جورج حدَّاد. وسَّعته الشركة. جعلته جادةً، السير فيها بالاتجاهين، وبمسارات متعدّدة. وفي أسفله نفق يوصل إلى المسار الواسع، بين البلدية وجادة شارل حلو.
لم يعدِ الشارعُ، ذلك الجزء المتواضع، من النسيج الذي كان مبنياً هناك. هُدِمَ النسيج المبنيُّ، وأطلَّت علينا جادة جورج حداد. حزام قاسٍ، يفصل قلب بيروت عن جسد المدينة في شرقها، أكرّر.
جادة جورج حداد، حزام عريض يُرى، اجتيازه صعبٌ. وحضورٌ عنيف قاسٍ.
في شارع غورو– الجميزة، نحن في عالم مدينيّ آخر. وربَّما يصحُّ القول، بالمقارنة مع فعل «سوليدير» في قلب بيروت، ربَّما يصحُّ القول، إننا في مدينة أخرى. مدينةٌ أخرى، ندخلها عبر بوابة بالضرورة.

«بول» في المبنى التراثي ـ الواجهة الشمالية

البوابة التي تحكي، بعد أن نجتازها، هُويَّة الأمكنة، الموجودة هناك
في منتصف جادة جورج حداد، الآتية من جادة الرئيس فؤاد شهاب، وهي الحزام القاسي الرئيس، ومحدّدة الأمكنة منذ نهاية الستينات من القرن الماضي. حزام يفصل بقسوة فاقعة، قلب المدينة عن جنوبها. في منتصف جادة جورج حداد، تنتصب عند البداية الراهنة لشارع غورو - الجميزة، واجهتان تحكيان لغة معمارية واحدة.
في الواجهة الشمالية، طابق أرضي، وثلاثة طوابق علوية. سقف المبني من القرميد الأحمر. في الطابق الأرضي «بول» وحديقته. وفي الطوابق العلوية، الأقواس الثلاثة المزيَّنة، والشرفة المحوريَّة الناتئة.
في الواجهة الجنوبية، طابق أرضي، وطابقان علويّان، سقف المبنى من القرميد الأحمر أيضاً. الطوابق فيه أكثر ارتفاعاً. لذا بدت الواجهتان بارتفاع واحد.
حدَّدت الواجهتان الشارع. حدَّدتا بتناغمهما، مجال الدخول إليه.
إنها بوابة، واضحة. مرئية. تحفر عميقاً في مشاعر المارَّة، وفي وجدانهم. ربطنا الواجهتين في نصّ سابق، بقوسٍ صنعناه من الغار ومن الأزهار الملوَّنة. وأردنا أن نرمز بذلك إلى الصدفة المزدوجة، التي حمت المنطقة، من جرَّافات شركة الهدم والردم، «سوليدير». إنها بوضوح، البوَّابة الرمز. البوَّابة الدالَّة، على كل ما سيدهشنا بعد اجتيازها.

ما بعد البوَّابة، ثانياً.
الفوَّهة – البوَّابة، جاذبة. تقف في محورها، في منتصف جادة جورج حداد، الفوَّهة – البوَّابة جاذبة. تقترب. التجانس بين الواجهتين مذهل.
تتأنَّى في قراءة التفاصيل، وأنت تدنو من الفوَّهة. المستطيل الذي ترسمه زاويتا الواجهتين، يحاكي بدقة، المستطيل الذهبي، الذي عرَّفه لوكوربوزييه في المودولور (Modulor) بعد عقود.
بين الواجهتين، عند الزاويتين، الحوار نغمٌ، واللغة موسيقى، والمرئي سحرٌ.
مفردات اللغة المعماريَّة، في مبنى الواجهة الجنوبيَّة، بسيطة، مكرَّرة، بتواضع كتابة مسطَّحات المبنى. والشرفة الناتئة، أمام الباب – الشباك في الوسط، حضورها في التأليف العام خفر، يدلُّ على الألفة في المجال المبني خلفها.
في شارع غورو، نحن في عالم مدينيّ آخر بالمقارنة مع فعل «سوليدير» في قلب بيروت


يصر المؤلّف على أن يكون ارتفاع النوافذ في الطابقين، واحداً. للحفاظ على بساطة التأليف. في حين أن الطابق الأول، أكثر ارتفاعاً من الطابق الثاني.
ويسهّل السقف القرميديُّ الأحمرُ، القراءة الإجماليَّة للفوَّهة – البوَّابة، رغم التزيين المبالغ، في كِتابة عِمارة مبنى الواجهة الشمالية.
الأقواس الثلاثة في المحور، مزيَّنة، ومختلفة في الطوابق الثلاثة. والشرفة الناتئة، الممتدَّة أمام الأقواس الثلاثة، تساهم بقوة في كتابة المشهد المرئيّ.
النوافذ في التأليف المحوريّ مختلفة التزيين، من طابق إلى آخر. في المحصّلة، تعقيد وبساطة، يتكاملان، ويساهمان معاً، في كتابة عمارة الفوَّهة – البوَّابة.

ما بعد الفَّوهة البوَّابة، عنق طويل، من العمارة التراثية. نجتاز الفوَّهة – البوابة. نحن في عنق شارع غورو - الجمَّيزة. إنه عنق فعْليٌّ، عنق طويل. للعُنق جداران. جدار جنوبي، وجدار شمالي. يبدأ الجدار الجنوبي بعد الفوَّهة – البوابة. يقطعه، في استمراريَّة لغته المعماريَّة التراثيَّة، مبنى حديث، عند حدود طريقٍ يتَّجه جنوباً. ليوصل إلى شارع مارون النقاش، المختبئ في النسيج المبني، خلف الواجهة – الجدار الجنوبي، حيث تكثر الدلائل على حياة موازية، فيها الكثير من العفويَّة، ومن المباني المسكونة المفاجئة، ومن الحدائق بأشجارها المتنوّعة، والفجوات المتكرّرة غير المبنية، ليستمرَّ بعد هذا القطع، حتى آخر مبنى كنيسة مار يوسف، عند حدود شارع لبنان. الممتدّ، وصولاً إلى شارع غورو، عَبْر محلة التباريز.
أما الجدار الشمالي للعنق، فيبدأ بعد التفافه «بول»، ويستمر حتى الطريق المحاذي غرباً، لكنيسة ومدرسة القلب الأقدس.
الجدار الجنوبي للعنق طويل. إنه ضعف الجدار الشمالي طولاً. نشعر ونحن نعبر المجالات، أننا في عنق مدى واضح الحدود. والمسار فيه يوصل بالضرورة، إلى البداية الفعلية لشارع غورو- الجميزة، بوظائفه المعروفة، وبعمارة مبانيه، في واجهته الجنوبية. وخاصة، بتراكم الزمن قروناً في هذه العمارة. بالمواد التي استخدمت في بنيانها. وباللغة المعمارية في هيكالها وفي واجهاتها. وفي وجهة استعمالها، المتغيرة في الطابق الأرضي، والثابتة في الطوابق العلوية.

في الواجهة الجنوبية، مبنى تراثي أصيل مهجور

الشعور بالعنق، خلال المسار، وكأننا في نفق، سقفه سماءٌ تلامس رؤوسنا. وهي بارتفاع المباني التي تحوطنا. تدفعنا للرجوع، إلى الفوَّهة – البوَّابة، للتوقُّفِ قليلاً، لننظر في بعض التفاصيل في البنيان. وليسحرنا التأليف المميَّز، يصنع النسيج المبني في الأمكنة. ولنتنشَّق عَبق عطرٍ يفوح، من مفرداتِ لغة معماريَّة بسيطة، فريدة، أكاد أقول.
جدار العنق في الواجهة الجنوبية، مبنَيان شبه متلاصقين. كل مبنى مؤلّف من جناحين مسكنين. محور التأليف درج مشترك، بمفرداته المعماريَّة المميَّزة.
المبنى من طابق أرضي، ومن طابقين علويين. التأليف في المبنى، وفق ما ألفناه في البيت ذي الأقواس الثلاثة، محوريٌّ. في المحور الأقواس الثلاثة، والأعمدة الرخامية، والشرفة الرخامية البيضاء الناتئة. القوس في الوسط أكثر عرضاً، ليؤكد محورية التأليف.
في المبنى بجناحيه، أربع شرفات ناتئة. كسوة إسمنتية صفراء مشغولة، ترسم حجارة رمليَّة، يفترض أنها استخدمت في تشييدِ المبنى.
حدود العنق هنا، الفجوة الموصلة إلى الحياة خلف الجدار الواجهة والمبنى الحديث الذي ينطح السماء. طابق أرضي، وأحد عشر طابقاً علوياً، كما سبق وذكرت.
ترتفع السماء مع ارتفاعه، ونحن قبالة كنيسة ومدرسة القلب الأقدس. تبتعدُ السماء عن الرؤوس. تعود إلى موقعها في الأعالي.
في الجدار الشمالي للعنق، حافظ المبنى الأول على أصالته، فوق التفاقةِ «بول»، في الطابق الأرضي. ثلاثة طوابق علوية، فيها محوران بالأقواس الثلاثة، وستُ شرفات ناتئة أمام الأقواس الثلاثة، المبالغة بزينتها.
أما المبنى الثاني، فهو مهدَّم جزئياً، ومرمَّم بالحجر الخرساني في طرفه، قبل مدرسة القلب الأقدس. شرفة الطابق الأول، ناتئة، مسكونة. رجُلٌ يجلس على كرسيّ، في زاوية الشرفة.
يتلاشى الشعور بالعنق، ونحن أمام مدرسة القلب الأقدس. إنه ملحق العنق. لا أهمية للمبنيّ في الجدار الجنوبي، باستثناء كنيسة مار يوسف، واللوحة التذكارية للمسرحي العربي اللبناني مارون النقاش، المثبتة في جدارها. مبنى كنيسة مار يوسف، من الحجر الرملي البيروتي الأصيل.
وقبالتنا، عمارة مدرسة القلب الأقدس. طويلة، غريبة، طارئة.
غابت السماء، ارتفعت، وابتعدت، ولم تعُد سقفاً يلامس الرؤوس، ولم يعُد في المكان عنق مغلق.
* معمار لبناني