أحدثت الملحمة الدرامية Gomorrah ثورة في التلفزيون الإيطالي، وأخذت بلبّ شبان نابولي، واستحالت ظاهرة ثقافيّة تسربت إلى اللغة والإعلام والسياسة. والأهم أنها استعادت أعمال الجريمة المنظّمة وصراع العائلات من أروقة البرجوازيّات وفق الرؤية الأميركيّة (كما في «العرّاب» مثلاً) إلى شوارع الأحياء الفقيرة بشكل أقرب إلى الواقع المعاش. لكن «غومورا» ليس مجرّد مسلسل مافياوي آخر: إنّه قراءة ذكيّة بالكاميرا للمصيدة الرأسمالية التي تطبّق على حياة المهمّشين وتدفعهم إلى الحصول على ما يسدّ رمقهم من الطريق البديل الوحيد المتوافر: الجريمة والتجارة بالممنوعات. هذه ليست قصّة نابولي وحدها. إنها قصّة الطبقة العاملة في كل مدينة فتكت بها البرجوازيّات المعاصرة: من بومباي إلى ريو، ومن القاهرة إلى لندن
روبرتو سافيانو صحافي إيطالي شجاع نشر في 2006 تفاصيل رحلته الشخصية إلى دهاليز الجريمة المنظّمة في مدينته نابولي حيث تتركّز أعمال عصابة الجريمة «كامورا» التي تتحكم بالحياة اليوميّة لأحياء الطبقة العاملة في المدينة وتمتدّ شبكات إمدادها وتجارتها عبر العالم. أصبح كتابه Gomorrah (الاسم تلاعب ذكي على اسمي «كامورا»/ العصابة، وعمورة/ المدينة الفاسدة في التراث التوراتي) أكثر الكتب مبيعاً فور طرحه، وبيعت منه ملايين النسخ، وتُرجم بسرعة إلى عشرات اللغات (بما فيها العربيّة)، ودخلت تعابير منه إلى المعجم الإيطالي بعدما رفع الغطاء عن بعض الأشياء التي لم يكن يعرفها أغلب الإيطاليين، لا سيّما لناحية سيطرة رجال العصابات المنظّمة على مساحات كاملة من أنشطة الأعمال والحياة العامة في نابولي والمنطقة المحيطة بها. لكن الكتاب تسبّب في انزعاج قيادات «كامورا»، وقد تكون صدرت أوامر بتصفية مؤلفه، ما أجبره على العيش منذ ذلك الحين تحت حماية الشرطة وعدم البقاء في أي عنوان سكني لفترة طويلة.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
إثر نجاح «غومورا»، تفرّغ سافيانو للعمل على كتابة نصوص روائيّة ودراميّة تستلهم أجواء الجريمة المنظمّة التي خبرها في نابولي، سرعان ما انتقلت إلى الشاشة. في عام 2008، تعاون مع المخرج الروماني ماتيو غاروني، لكتابة سيناريو فيلم يستلهم «غومورا» بتمويل مشترك بين رأس المال الأميركي الخاص والحكومة الإيطالية والاتحاد الأوروبي، وتم تصويره معظم مشاهده في حي سكامبيا حيث «لو فيلي» مجمّع الإسكان الشعبي على أطراف نابولي الذي كان معقلاً أثيراً لـ«كامورا» وأكبر سوق للمخدرات والأسلحة في أوروبا الغربية. المجمّع كان قد بني بين 1965 و1980 على شكل كتل خرسانيّة ضخمة لإعادة إسكان الأحياء الفقيرة المتهالكة في قلب المدينة القديم: خليط من الإيطاليين البؤساء والمهاجرين الأفارقة والصينيين. المعماريّون الحالمون الذين صمّموا المساحات المشتركة في المجمّع لأغراض تعزيز روح التقارب بين السكان من خلال شبكة من الممرات الضيقة والأنفاق والتعرجات، ساعدوا في الواقع على خلق أجواء مثاليّة للأنشطة غير المشروعة وممارسة مختلف أشكال العنف. غارون وسافيانو رسما على خلفيّة إيقاع الحياة المظلم لسكامبيا (بمشاركة كومبارس من سكانه) خمس قصص منفصلة لكنها متشابكة بخيط «كامورا»، وكشفت عن تغلغل الجريمة المنظّمة في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي للمجتمع الإيطالي، ليس فقط بالتحكّم بإدارة العقود الحكوميّة لجمع النفايات في نابولي - حيث مركز عمليات «كامورا» الرئيسي - بل إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، نحو المدن الصناعية الثريّة في شمال البلاد كما الحقول والمزارع في المناطق الريفية في جنوبها.
«غومورا» الفيلم (فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في «مهرجان كان السينمائي» عام 2008) منح إيطاليا فرصة للحصول على نظرة خاطفة على السواد الذي يعشّش في قلبها، ليعود «غومورا» مسلسلاً (أربع مواسم بدءاً من 2014 فيما يتم العمل حالياً على إنتاج موسم خامس وأخير) ليمكّن إيطاليا والعالم من الحملقة مليّاً في ذلك السواد.
واقعيّة أداء الممثلين ومواقع التصوير، والقصص المستوحاة من سجلات الشرطة دعمتها كاميرا ذكية، وموسيقى مؤرّقة


«الكامورا» نموذج من أنشطة العصابات يختلف بشكل جذري عن المافيا الصقليّة والتمثيلات الأميركيّة الساذجة لها كما في «سوبرانوز» (حياة منزليّة لطيفة وزعيم عصابة يقضي معظم وقته يبث همومه لمعالجته النفسيّة) أو «العرّاب» (العائلة الأرستقراطيّة المزاج) وأعمال مارتن سكورسيزي. ربما تكون مساحة أعمال العصابتين واحدة: الابتزاز، والاتجار بالمخدرات، وغسل الأموال، والإنشاءات، وحتى العمل السياسي. لكن إذا كانت المافيا مؤسسة تراتبيّة صلدة للجريمة المنظمّة في عصر الحداثة، فإنّ «كامورا» أقرب إلى تراكيب سائلة موشكة دائماً على الفوضى للجريمة المنظّمة في عهد ما بعد الحداثة. ديناميكية «الكامورا» لا تستند إلى مفهوم (العائلة أو القبيلة الواحدة) والولاء الأبدي كما عند مافيا صقليّة، بل هي تعايش هشّ في تحوّل مستمر بين شلل محليّة لا تجمعها رابطة دم وليس عندها ولاءات دائمة، وتنسّق أنشطتها عبر تحالفات موقتة تتغيّر لتلائم اللحظة. هذا التقلب يخلق عنفاً منفلتاً لا يرحم، ويفتح الباب لانعطافات غير متوقعة في مسار الأحداث. ورغم كلفتها الباهظة على المجتمع الإيطالي، إلا أنها تقدّم مادة خام عبقريّة للدراما. ولذلك، فإنّ سافيانو أصبح بمثابة منقذ للتلفزيون الإيطالي بعد ربع قرن من التفاهة حيث ميلودرامات تلفزيونية رخيصة يتم إنتاجها بالجملة بميزانيات متدنيّة على النسق العاطفي الهندي: شرطي مثالي عصيّ على الإفساد أو أمّ فقدت ابنها لتجده بعد عشرين عاماً أو شابة فقدت زوجها، فتكتشف أنها كانت مخدوعة طوال الوقت وهكذا. «غومورا» غيّر اللعبة جذريّاً. دراما شديدة الواقعية، يخيّل لك أحياناً – لا سيّما إذا كنت من سكان نابولي - أنها عمل وثائقي، إلى درجة أنّ المسلسل عُرض في بلاده مع ترجمة على الشاشة إلى اللغة الإيطالية الرسمية لأن الشخصيات فيه تتحدث إلى حد كبير بلهجة نابولي العاميّة الثقيلة التي لا يسهل عبورها لأي شخص من غير سكانها. «غومورا» يتتبّع مسار فصيلة من «الكامورا» برئاسة بيترو سافاستانو (فورتوناتو سيرلينو) الذي يتسبّب اعتقاله في تحوّل نجله الوحيد جيني (سلفاتوري إسبوزيتو) من طفل متهوّر يريد بشدة أن تحبه عائلته إلى زعيم استراتيجي لعصبة قتلة فقدت صلتها بالإنسانيّة من أجل الربح والسيطرة. وفي سيرة تحوّله تلك، يكون رفيقه وأفضل صديق له ـــ وفي بعض الأحيان ألدّ أعدائه ـــ عضو العصابة الشديد الطموح سيرو دي مارزيو (ماركو دالمور). قدّم إسبوزيتو دوراً مؤثراً في الموسم الرابع من المسلسل الأميركي الشهير «فارغو» لفت الانتباه إلى قدرته الاستثنائيّة على تقديم الشخصيّة الإيطاليّة. لكنه استُدعي بداية إلى «غومورا» لا كممثل، بل كمستشار لإدارة المشاهد لتجارب الأداء لضمان إتقان الممثلين لعاميّة نابولي. صانعو المسلسل أدركوا سريعاً أنّه ليس خبيراً باللهجة المحليّة للمدينة فحسب، بل هو أيضاً الأقدر على تفكيك الشخصيّة النابولونيّة وإعادة تركيبها للدراما. وفي الحقيقة، فإن إسبوزيتو وإن تجنّب التّورط شخصياً في أنشطة «الكامورا»، فإن معظم أصدقائه (نشأ في نابولي)، كانوا منخرطين فيها، ولذلك بدا تمثيله مرتاحاً كمن هو في بيته وأجوائه الطبيعية.
واقعيّة «غومورا» لناحية الممثلين ومواقع التصوير في نابولي وروما (لا سيّما في سكامبيا حيث مناطق سيطرة «كامورا» التي طالما اعتبرت خارج التغطية) والقصص المستوحاة من سجلات الشرطة والمدعين العامين دعمتها كاميرا سينمائيّة ذكيّة، وموسيقى مؤرّقة وتصميم مشاهد مبدع، لا سيّما العنف وإطلاق النار. والنتيجة لم تخيّب أبداً: دراما شكسبيرية تامّة مسرحها تلك الكتل الخرسانية ومعازل الفقراء الذين همشتهم البرجوازيّة الإيطاليّة الشرهة وتخلّت عنهم الدولة (أداة البرجوازيّة لحماية التفاوت الاقتصادي)، فلم يجدوا بديلاً من أجل وضع الطعام في صحون عائلاتهم سوى البوابة الوحيدة التي بقيت مشرّعة أمامهم: الجريمة والأنشطة غير المشروعة. وهم عندما يدخلون هذا العالم القذر كمن يتجرّع سماً ولا يعود بإمكانه التخلّص منه. إنّه سمّ يقتل إنسانيتهم رويداً رويداً، ويحولّهم إلى وحوش بشريّة تنهش بعضها بداية من أجل لقمة العيش، ولاحقاً لإشباع شهوة السيطرة على المصير في مواجهة قسوة الرأسماليّة التي لا ترحم، وأبوابها المغلقة أبداً أمام الصعود الاجتماعي للبشر المنحدرين من قاع المجتمع.
نجاح «غومورا» عالمياً ـــ رغم بعض التعثّر بسبب إفلاس الشركة الموزعة بداية في الولايات المتحدّة ـــــ فتح الباب أمام مقاربة جديدة لدراما الجريمة الإيطالية المنظّمة، فسارعت نتفليكس لإنتاج «سوبورا» (راجع «الأخبار» عدد 18 آذار/ مارس 2021)، ولحقت «أمازون» أخيراً بتقديم «زيرو زيرو زيرو» (عن نص غير روائي آخر لسافيانو). لكن ذلك لا يقارَن بنجاح «غومورا» إيطالياً. هناك، تحوّل المسلسل إلى ظاهرة سحرت الشبان في كل إيطاليا. قصّات شعر أبطاله – لا سيّما شخصيّة جيني – ووشمهم وطريقة لبسهم، صارت تشاهد في كل مكان، وتعطّلت الحياة تماماً في نابولي عندما عرضت الحلقات للمرة الأولى على التلفزيون الإيطالي. ولمّا تعارض موعد عرض بعض الحلقات مع مباريات نابولي ويوفنتوس، تم تقديم موعد البث استثنائياً لمنع غضب الجمهور. وشكا عمدة نابولي بمرارة من الصورة الشديدة السلبيّة عن مدينته التي يقدّمها المسلسل متهماً إسبوزيتو ورفاقه برسم هالة إيجابيّة عن الإجرام والتسبب في ارتفاع جرائم العنف بعد إذاعة كل حلقة. وأقدمت السّلطات لاحقاً على هدم مجمع «لو فيلي» السكني بالكامل (العام الماضي)، لـ«إزالة رمز لانعدام الكرامة والتدهور والشرور» وفق العمدة. وأصبحت الصحف الإيطالية تصف عمليّات التصفيّة الإجراميّة بـ«الإعدامات على طريقة غومورا». وبعد تفشي وباء كورونا، أُنجزت نسخة كاريكاتوريّة ساخرة من «غومورا» تحوّلت العائلات فيها من تجارة المخدرات إلى تجارة مطهرات الأيدي!
«غومورا» المسلسل «مذنب» بالتأكيد، لا سيّما أنّه يروي الحكايا من وجهة نظر المجرمين وطابعه ذكوري محض. لكّنه لم يخترع شيئاً بقدر ما وضع على الطاولة جزءاً مما يدور بالفعل في الأحياء الشعبيّة للمدن في إيطاليا، لا سيما في جنوبها الفقير. وهو مع أصالته الإيطاليّة الظاهرة، يُقرأ كما خوارزميّة سرد معولمة عابرة للمكان واللغات تحكي نتائج الانقسام الطبقي المتفاقم في كل المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. لعلّ تصوير الظلم الاجتماعي كما هو يكون البداية لفهم ديناميكيّات إنتاجه وإعادة إنتاجه.

Gomorrah على HBO Max