مرة أخرى، يقتفي أحمد حوماني آثار بصماته في رحلته الطويلة في عالم التلفزيون على مدى 30 عاماً مدفوعاً بشغفه لبناء عمارة متكاملة عن العمل التلفزيوني، فيجمعها في كتابه الجديد «المرجع في إدارة البرمجة التلفزيونية» (روافد، 2021) بعد كتابه الأول «المرجع في إدارة إنتاج المسلسلات التلفزيونية» ضمن سلسلة بحثية يودّ حوماني أن يقدّمها للمكتبة العربية.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
في كتابه الجديد، ينطلق بجردة للمراحل التي مرّ بها التلفزيون منذ أن طوّر الألماني بول نيبكو القرص الدوّار بهدف نقل الصورة من خلال الأسلاك عام 1884 إلى جهود الروسي فلاديمير زوركين وآخرين في نظام دمج الصوت عام 1947 والتلفزيون الملوّن عام 1950 وحتى وصولنا إلى التلفزيون الرقمي «الذي سيعيد النصر للتلفزيون ويعقد صلحاً دائماً مع الحسابات الشخصية وشبكة الإنترنت» بعد التخوّف من فناء التلفزيون إثر انتشار الإنترنت.
«بدايات البث التلفزيوني في العالم العربي تختلف تبعاً لنيل هذه الدول استقلالها عن المستعمر الأجنبي». سنتعرّف إلى السنوات التي بدأ فيها البث في الدول العربية الذي كان من الأمور السيادية ومن صلاحيات السلطات، فكان حكراً على الدولة وأجهزتها التي كانت تسعى من خلال قناتها الرسمية الواحدة إلى تعزيز الهوية الوطنية وتقوية القيم الأخلاقية والإنسانية في المجتمع والترويج لأنظمتها، ومنذ أن كانت الشاشة بالأبيض والأسود ومع ست ساعات بث حتى يومنا الحالي، حيث تعدّدت إيجابيات وسلبيات التلفزيون، يجردها لنا منتج «مرايا الزمن» بعدما «أصبح من الصعب تصوّر الحياة من دونه». سلسلة من الانبهارات عرفها القرن العشرون، وفي كل مرة يتخوّف العالم من تلاشي الاختراع الذي سبقه؛ «منذ انتشار الراديو تمّت مقارنته بالصحف، ومنذ انتشار التلفزيون تمّت مقارنته بالمسرح، اعتقد البعض أن التلفزيون سيلغي المسرح، وسيتّجه المسرح نحو الذوبان لكن ذلك لم يحدث، ومن راودته هواجس سيطرة التلفزيون على الراديو استيقظ على ثبات الراديو». هذا الخوف سينسحب على التلفزيون عند ظهور الإنترنت وخصوصاً الهواتف الذكية، «فقد نعى البعض التلفزيون والراديو والصحف والمسرح». يروي حوماني كيف تمكّن التلفزيون من احتواء وسائل الإعلام الجديدة وتطويعها للحفاظ على استمراريته المادية والرمزية عبر نشر أخبار عاجلة ومقاطع مصوّرة على صفحاته على فايسبوك وتويتر، ونشر حلقات كاملة على منصة يوتيوب، بالإضافة إلى خدمة البث المباشر، وهو ما أدّى إلى خلق بيئة تفاعلية وتشاركية، بعدما كان الاتصال المباشر هو الوسيلة الوحيدة للتواصل مع القنوات. كما أصبحت تغريدات الناشطين مادة إخبارية. ولا يخفي حوماني تخوّفه على التلفزيون من تحدّيات هذا الوقت «سنجد أنه يتحكّم بترتيب يومنا وأجندتنا ومواعيدنا». فمع التطور التكنولوجي، أصبح بالإمكان البحث عن المادة ومشاهدتها في الوقت الذي يريده المشاهد، بالإضافة إلى عزوف المتابعين عن مشاهدة التلفزيون بسبب زيادة الفواصل الإعلانية. وفي النهاية، يراهن حوماني على وجود كيمياء بين كل وسيلة إعلامية وبين أفراد المجتمع، فلكل وسيلة جمهورها ولا يمكن لأي وسيلة أن تقضي على الأخرى.
القنوات اللبنانية هي قنوات تتعاطى السياسة بنسبة 30%


«البرمجة هي النهج التنظيمي الفكري الذي يحقّق أهداف الجهة المالكة من خلال تشكيل المواد التلفزيونية في بوتقة متكاملة تحقّق هذه الأهداف»، يبدأ حوماني في تقشير طبقات هذه الأمكنة من الإشكالية الأولى للبرمجة «من هو الزبون الذي يجب إرضاؤه في عملية إنتاج البرامج وبرمجتها؟ هل هو الجمهور أم الجهة المالكة، فكيفية التوفيق بينهما هو من مسؤولية البرمجة». ويحدّد موقع مدير البرامج، الذي يجب أن يتمتّع بالثقافة العامة والتلفزيونية والاطّلاع المتواصل على ما تبثّه القنوات الأخرى، ويختلف موقعه من قناة إلى قناة، ويفضّل حوماني أن يكون مرتبطاً بشكل مباشر بالمدير العام، فإدارة البرمجة هي المسؤولة عن إبراز هوية القناة. لكن القنوات الرسمية لها هويات متشابهة ومعايير معلّبة «تغيير سلوك المواطنين بما يتناسب مع تطلّعاتها». أما القنوات الخاصة، فتختلف هويتها تلبيةً لأهداف الجهة المالكة. وتشمل هوية القناة شكلها وألوانها ما يسمى «لوك الشاشة»، أو الهوية البصرية، ويجرد حوماني ألوان بعض القنوات والأشكال الهندسية التي تعتمدها، والدلالات الرمزية لهذه الألوان والأشكال. ويقدّم أمثلة على ذلك منها ألوان قناة «أم. تي. في» المستقاة من ألوان العلم الفرنسي، التي قد تكون معنىً سياسياً مقصوداً يرمز إلى العلاقة مع الجمهورية الفرنسية. وثمة جردة أخرى لحركات الكاميرا وزوايا التصوير وأنواع اللقطات، كما أن الموسيقى وصوت الترويجات الموحّد هو جزء من اللوك العام للشاشة.
يوضح الكتاب الوظائف الرئيسية لمديرية البرمجة بشكل تفصيلي، بالإضافة إلى مسؤوليتها عند تعديل البرمجة والقطع المفاجئ للبث بسبب أحداث مفاجئة تجبر القناة على البث المباشر ومواكبة الحدث ما يؤدي إلى إلغاء بث فقرات، وهذا ما يسبّب مشكلة للبرمجة وخصوصاً لو كان ضمن هذه الفقرات إعلانات تجارية مدفوعة وجرى إلغاء عرضها. ويوضح حوماني كيف لم يعد دور البرمجة مقتصراً على تنظيم جدول البرمجة «بل أصبحت رأس الحربة في معركة المواجهة مع القنوات الأخرى للحفاظ على الجمهور» حيث بدأ النظر إلى المواد التلفزيونية كسلع تجارية وإلى المشاهد كزبون يجب المحافظة عليه.
يقدّم مدير «مركز بيروت الدولي للإنتاج الفني» نسخة تامة لجذب الجمهور «العديد من القنوات التلفزيونية تخصّص أموالاً طائلة لشراء أو إنتاج تلفزيوني ما، لكنها لا تحقّق الهدف المنشود لمجرّد أنها أخطأت في موعد بثّه»، فيدلّنا على «وقت الذروة» الذي يتحرّك من فصل آخر ومن دولة إلى أخرى. كما أن لكل مرحلة عمرية ولكل نوع من المشاهدين فترته الخاصة. كما يدخلنا حوماني في تصنيف البرامج وفقاً لأنواعها ولأهميتها وتصنيف فترات البث، ويلقي نظرة على الماضي، فيورد لنا برمجة «تلفزيون لبنان» عام 1978، ويصل إلى معاناة إدارة البرمجة حالياً بعدما تدفقّت القنوات الفضائية ومنها المتخصّصة التي أفقدت القنوات المحلية بعضاً من ولاء الجمهور «الذي تسرّب إلى خارج الحدود الوطنية». وهذا الأمر «استمرّ حتى بداية ما سمّي الربيع العربي حيث التغييرات السياسية والاجتماعية التي أعادت هموم المشاهد هموماً محلية، وهناك قضايا لن يجدها إلا في القنوات المحلية».
يضع أمامنا حوماني نماذج للشبكة البرمجية ويسرد طرائق لإنجازها انطلاقاً من السؤال الأساسي: «هل نريد وضع قناتنا في موضع المنافسة مع القنوات الأخرى؟». ومن أنواع البرمجة التي سنتعرّف إليها، البرمجة المتفرّدة، فلا تلتفت القناة لما تبثه القنوات الأخرى، والبرمجة المتشعّبة التي تراعي ما سيتمّ بثه في القنوات الأخرى. ومتكئاً فيها على خزانته الشخصية، يقدّم حوماني أساليب عرض البرامج في الشبكة البرمجية، فهناك تقنية الهروب من المواجهة، وتقنية المواجهة المباشرة، وتقنية السبق في العرض، وصولاً إلى تقنيات جذب الجمهور منها استقطاب الشخصيات المثيرة والفنية.
سيصادفنا حوماني بحديث آخر عن الأداء الترويجي، الذي يهدف إلى تحسين الصورة المعنوية للقناة وجذب المشاهد والمعلن، وشكله ومضمونه وأنواعه، ويدخل في وسائل الترويج وسياساته العامة، ثم ينتقل إلى أهمية استطلاعات الرأي وطرائق قياس نسب المشاهدة. ويختم في دراسة نسب بثّ البرامج على القنوات المحلية (أم تي في، أل بي سي، أو تي في، الجديد، أن بي أن) وبعض القنوات العربية (أم بي سي، أبو ظبي، دبي، الراي، قطر الرسمي، الجزائري الرسمي) عبر جرد نوع البرامج التي تبثها وكيفية توزيع ساعات البث ونسبة البث بحسب موضوعات البرامج. وتخلص الدراسة إلى أن القنوات اللبنانية هي قنوات تتعاطى السياسة بنسبة 30%، وأنها مهتمة بشكل كبير في إنتاج البرامج العامة، في حين كانت مساحة البرامج السياسية في القنوات العربية لا تصل إلى 12%. ويقدّم حوماني رسوماً بيانية لكل قناة لجهة نسبة الإنتاج والعرض وتصنيف المواد لجهة نوعية البث.
ثمة مؤونة كاملة في مذكرات حوماني، نخرج بها بعد قراءة الكتاب تكفي لتحصيننا معرفياً في هذا المجال، ومزّودين بثقافة تلفزيونية لن تبرح ذاكرتنا. سننصت إلى حوماني وكأننا نلتفّ حول طاولته وهو يختم كتابه بتوصيات عامة أهمها أن أبرز المهمات الملقاة على عاتق إدارة البرمجة -بغضّ النظر عن هوية القناة ورسالتها- هي السعي إلى حماية الهوية الثقافية والوطنية للبلد «الذي تنتمي إليه».