القاهرة | قلّة هم العارفون بقيمة الشاعر المصري نجيب شهاب الدين (1944-2021) الذي رحل أول من أمس. ونادرون هم الذين صدقوا في وصف ما أنجزه، وما قصّر فيه، وقد قصّر الرجل في حق نفسه قبل أي شيء آخر. الغالبية العظمى من الأخبار التي نعته على المواقع المصرية، لن تجد فيها إشارة إلا إلى أغنية واحدة: «يا مصر قومي وشدّي الحيل»، حتى ليبدو لمن لا يعرف الرجل أنه لم يكتب سواها. من يعرفه جيداً، يعرف أنّه كان رقيقاً طيباً، يعرف قدر موهبته، ولا يزاحم الآخرين، مستغنياً، بطاقة شبه صوفية، يتناوبها الغضب والاكتئاب، في دورات تتفاوت مدتها. حثّه كثيرون على جمع أشعاره ومقالاته، وكتابة ذكرياته وتجارب حياته، فكان يبدي استعداداً بدون حماس، ثم يؤجّل الأمر. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
سمات نجيب أصيلة لا طارئة، أو نتاج مرارة التجارب. حين تعرّف إلى الشيخ إمام (1918 - 1995)، عرف أنه يصعب عليه أن يزاحم كوكبة الشعراء الذين يطعم الشيخ بهم تجربته ويمازجها مع أشعار أحمد فؤاد نجم؛ صاحب حصّة الأسد من الألحان والشهرة والمعاناة، حتى لا يُعد تجاوزاً إن وصفت التجربة الفنية والاجتماعية والسياسية بأنها تجربة الشيخ إمام وأحمد نجم، رغم مشاركة شعراء كبار، كنجيب سرور وفؤاد قاعود وزين العابدين فؤاد...

في مرحلة مبكرة من تلك التجربة، كان نجيب شهاب الدين قانعاً بالصحبة ومندمجاً في «الجوقة». ألقي القبض عليه في أيلول (سبتمبر) 1974، ضمن مجموعة من العمال والنقابيين والمثقفين والسياسيين والفنانين، ضمّت بالإضافة إلى الشيخ إمام ونجم، الفنان علي الشريف، والمخرج علي بدرخان، والممثلة اللبنانية غلاديس أبو جودة، التي شاركت في فيلم «العصفور»، (1972 ــ إخراج يوسف شاهين) الذي قدّم فيه الشيخ إمام أغنيته: «مصر يا أما يا بهية» (كلمات أحمد فؤاد نجم). بحسب كتاب صلاح عيسى «شاعر تكدير الأمن العام»، فإن الشيخ إمام سئل خلال تحقيقات النيابة في القضية التي عُرفت إعلامياً باسم قضية «شرّفت يا نيكسون بابا» (نسبة إلى أغنية الثنائي بالاسم نفسه التي قدّماها في مناسبة زيارة الرئيس الأميركي لمصر) عن علاقته بكل واحد من المقبوض عليهم في القضية. أجاب الشيخ إمام حين سئل عن نجيب شهاب الدين: «هو صديق أراه أحياناً ويسافر أحياناً إلى بلده، وكتب لي قصيدتين أُعجبت بهما، واحدة تقول: «يا مصر قومي وشدّي الحيل» والثانية تقول: «سايس حصانك». والقصيدة الأولى سياسية تدعو الشعب للالتفاف حول مصر، وليس فيها هجوم، والثانية قصيدة غنائية فولكلورية لا سياسية، ولحّنت القصيدتين وغنيتهما في الجلسات الخاصة لأني لا أقترب من الإذاعة منذ سنة 1968، كأوامر من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لأني كنت أهاجمه في الأغاني، وهاجمته سنة 1967 بعد النكسة، ونجيب شهاب الدين شخص مصري يحب مصر».
حين ألقي القبض على نجيب شهاب الدين، لم يكن قد بلغ الثلاثين. مكث في الحبس ثلاثة أشهر. وفور خروجه، سافر للإقامة مع زوجته الصحافية الفرنسية في بلدها، لكنه لم يقم هناك طويلاً، وعاد كي يعالج مرض «الحنين للوطن».
النعي الرائج في الصحافة المصرية يكاد يقول إنّ الشاعر الذي بدأ رحلته مع كتابة الشعر العامي منذ ستينيات القرن الماضي، لم يُعرف سوى عبر أغنيتي الشيخ إمام. ظل نجيب وفياً للشيخ، ونافح عنه في حياته، ودافع عنه بعد وفاته. أقرّ بمحدودية مساهمته في التجربة، وأهمية مساهمة نجم، لكنه منح الشيخ الدور الأعظم في صياغة مجمل التجربة. هناك حدّان فاصلان لهذه التجربة: هزيمة يونيو 1967 وتظاهرات الطلبة في عام 1972. ظهرت موهبة نجيب شهاب الدين، كرفض مباشر للهزيمة. من خلال محاولات الشباب المثقفين والفنانين القفز خارج أسوار الحصار الإعلامي الرسمي- وقد سمح النظام بمساحة معقولة لذلك الخروج- نظموا مؤتمراً ثقافياً شبه مستقل عن الدولة، في خريف 1969، في مدينة الزقازيق مركز محافظة الشرقية، الملاصقة لمسقط رأس نجيب شهاب الدين؛ في محافظة المنوفية. في ذلك المؤتمر، ظهرت موهبته، لكن تألقه جاء خلال تظاهرات الطلبة الذين كانوا ينشدون في اعتصامهم وتظاهراتهم ووصولهم إلى ميدان التحرير، كلماته: «يا مصر قومي وشدّي الحيل». مع ثورة يناير 2011، استعاد المصريون نشوة النداء وطاقته التعبيرية. ثم كان أن التفت عدد من الفرقة الغنائية المستقلة إلى بعض قصائد نجيب شهاب الدين التي لم يغنّها الشيخ إمام، لكن ظلّ الالتباس يلازم سيرة الشاعر، حتى وفاته، فكثيراً ما تُنسب قصيدته الأشهر إلى النجم الذي لا يحتاج إلى أدنى إضافة على شهرته. وأياً كانت الدوافع التي «حجمت» منجز شهاب الدين، فإنه من المحزن أن يعرف بقصيدة واحدة، رغم جمالها، فحياته وشعره في حاجة ماسة إلى ما هو أكثر من رثاء متعجّل كواجب إجباري لملاحقة عدّاد الزيارات في المواقع الخبرية ومواقع التواصل الاجتماعي.

https://soundcloud.com/a_abousalem/5q0yu2yqq46w