قد يكون الاختلاف جائزاً حول تقييم أعمال عادل إمام (1940) الفنية أو مواقفه السياسية، غير أنه لا يمكن إنكار أهمية هذا الفنان في مصر وبقية البلاد العربية. أهمية استمدّها من مسيرةٍ فنية استمرت على مدى جاوز النصف قرن جعلته يتربع على عرش الفن والكوميديا والضحك في العالم العربي لفترة طويلة جداً. مسيرة صعودٍ مذهلة أخذت شاباً بسيطاً ينتمي للطبقة الشعبية المتواضعة في المدن المصرية إلى أن أوصلته إلى ذروة النجومية والثراء اعتماداً على موهبته وذكائه وعمله الدؤوب.
()

المسرح الكوميدي كان الميدان الذي ظهرت فيه طاقات عادل إمام ومواهبه. ومع مسرحية «مدرسة المشاغبين» و«شاهد مشفش حاجة» في منتصف السبعينات، اكتسب شعبية جارفة كـ «ملك الكوميديا» الجديد في مصر، مزيحاً عن العرش الجيلَ الأقدم والأكبر سناً، فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي واسماعيل ياسين. ومما يُحسب لعادل إمام أنه كان أكثر ذكاءً ممن سبقوه. عندما اتجه بعدها إلى السينما، لم يعتمد على نمط واحد أو شخصية بعينها أو يحصر نفسه في الإطار الكوميدي. بل يمكن القول إن التنوع كان السمة الغالبة عليه. بعد مجموعة من أفلام المقاولات الفكاهية التي يمكن وصفها بالتافهة (مثل «البحث عن فضيحة» و«آلو أنا القطة»، و«عنتر شايل سيفه»)، بدأ يخرج من الكوميدي إلى الرومانسي، كما الحال في فيلم «خلّي بالك من عقلك» أو إلى الإنساني كفيلم «الإنسان يعيش مرّة واحدة» أو العدمي كفيلم «الأفوكاتو» أو حتى الرعب كفيلم «الإنس والجن». لكنّ الأفلام التي رسّخت مكانته كملكٍ متوّج على عرش السينما المصرية ابتداءً من الثمانينات، كانت تلك المبنيّة على الـ «أكشن» بنسخته المصرية الممزوجة بالكوميديا مثل «المشبوه» و«حنفي الأبهة» و«سلام يا صاحبي».
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
لعل قدرة عادل إمام المميزة على أداء دور البطل الشعبي وتواضع نشأته وملامحه المصرية السمراء، ساعدته في أن يكون مقبولاً لدى الجمهور العريض (خلافاً لأبطال الأفلام التقليديين من ذوي العيون الزرقاء والبشرة البيضاء والجمال الفائق – نموذج رشدي أباظة وحسين فهمي).

عدوّ التيار الإسلامي
اشتهر موقف عادل إمام المعادي للحركات الإسلامية بأنواعها السلفية والجهادية والإخوانية في تسعينات القرن الماضي، خصوصاً من خلال فيلميه «الإرهابي» و«طيور الظلام». غير أنّ المتابع المدقّق لأعماله، سيجد أنّ عداءه للتيار الإسلامي بشكل عام، وليس فقط لحركات الإسلام السياسي، قديمٌ جداً، بل يكاد يكون معلماً ثابتاً في معظم أعماله وخصوصاً السينمائية. فأفلام عادل إمام، حتى البعيدة عن السياسة، لا تكاد تخلو من إيحاءات ومواقف وتفاصيل كثيرة، وكلمات وعبارات في ثنايا الحوار، تشي باتجاهه المتأصّل إلى معارضة وانتقاد الفكر الديني عموماً، والإسلامي خصوصاً. وحتى شخصية البطل التي ظهر بها في معظم أفلامه، كانت تلازمها صورة الرجل المسرف في شرب الكحول، ذي العلاقات النسائية المتعددة والبعيد كل البعد عن الانضباط الديني و«الأخلاقي» حسب المعايير التقليدية للإسلام المحافظ. لا يمكن أن يكون التكرار الشديد لمناظر القبلات الحارة في أفلامه جاء هكذا بالمصادفة أو عفو الخاطر، ولا هي من مقتضيات العمل الدرامي، بل هي مقصودة ومتعمّدة من طرفه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصورة النمطية المتكررة التي تظهر في أعمال عادل إمام للرجل المتديّن الذي يصلّي أو صاحب اللحية الذي عادةً ما يكون نصاباً أو آكل حقوق أو فظاً قاسياً، إن لم يكن إرهابياً خطيراً.
فنحن نعتقد أن عادل إمام في أعماله كان يؤدي رسالة أيديولوجية، يؤمن بها، معادية للفكر الديني- الإسلامي التقليدي. وقد صرّح عادل إمام نفسه في مقابلة تلفزيونية أنه في شبابه المبكّر انتمى إلى أحد التنظيمات الماركسية كان اسمه «حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري».
فلم يكن مستغرباً أن يتعرض عادل إمام في السنة التي تولى فيها محمد مرسي رئاسة مصر لحملة مضايقات انتقامية وملاحقات قانونية في المحاكم المصرية قام بها أشخاص من تيارات الإسلام السياسي. وقد أصدرت إحدى المحاكم عليه حكماً أولياً بالسجن لبضعة أشهر بتهمة «ازدراء الأديان». ولكن الحكم أُلغي وتوقفت تلك الحملات التي تستهدف عادل إمام بعد سقوط مرسي وتولي السيسي للحكم.

حليفُ النظام الحاكم
منذ التسعينات، بدأ يظهر واضحاً أنّ عادل إمام غدا جزءاً مهماً من الماكينة الدعائية للنظام الديكتاتوري الحاكم. صار يتولّى مهمة محاربة أعداء النظام إعلامياً مستغلاً شعبيته الكبيرة ومحبة الجمهور لأدواره الكوميدية وأفلامه. اتخذ موقفاً متطرفاً في تأييده لحسني مبارك ونظامه وتبنّى كل سياساته ــ داخلياً وخارجياً ـــ جملة وتفصيلاً. بل إنّ الأمر وصل به إلى حد التأييد السافر لتوريث الحكم لجمال حسني مبارك! لم يُسمَع من إمام يوماً كلمة تضامن مع عشرات الألوف من المصريين الذين كانوا يقبعون في سجون مبارك بأحكام الطوارئ وبدون تهمة محددة، ولم يتضامن يوماً مع ضحايا التعذيب في سجون أمن الدولة، ولم يستنكر تزوير إرادة الشعب في مهازل مبارك الانتخابية. ولذلك، لم يكن غريباً أن يكون اسمه من ضمن المراتب المتقدمة في «اللائحة السوداء لأعداء الثورة المصرية» التي أعلنها شباب «ثورة 25 يناير» عقب انتصارها سنة 2011. والنتيجة أنّه لا يمكن اعتبار إمام جزءاً من الحركة الليبيرالية الساعية نحو الديمقراطية، ولا من الاتجاهات التقدمية في مصر. وقد اتهمه بعضهم بأنه كان ينسّق أعماله السينمائية مع جهاز مباحث أمن الدولة. ونعتقد أنّ ذلك الاتهام صحيح.
منذ سنة 2000، بدا أنّ «عادل بيه إمام» صار في منطقة اجتماعية أخرى، فنياً


ولكنْ ماذا عن أعماله التي تحوي انتقاداً شديداً للفساد في أوساط أهل السلطة والمال والنفوذ، مثل فيلم «الغول» و«اللعب مع الكبار»؟ بل ماذا عن مسرحيته «الزعيم» التي فيها استهزاء برأس الدولة ذاته؟
والجواب هو أنّ نظام مبارك كان يعتمد على هذا النوع من الأعمال للتنفيس. الأمر يشبه وعاء الضغط الذي فيه منفذ صغير لمرور البخار. ولولا ذلك، سيحدث انفجار. كان نظام مبارك يترك لبعض الناس حرية الانتقاد، لكنه نقد مدروس فلا يجدي ولا يؤدي إلى تغيير. وأفلام عادل إمام كانت تقوم بهذا الدور أي إخراج الغضب الذي بداخل الناس، فبعد رؤية هذا النوع من الأفلام يخرج المرء من السينما وهو يشعر بنوع من الراحة.

الموقف الملتبس من القضية الفلسطينية
ليس لإمام موقف معروف ومستقل من القضية الفلسطينية بعيداً عن موقف النظام. ومنذ السبعينات، فإن أفلامه ومسرحياته فيها همزٌ ولمز بشأن المقاومة الفلسطينية والمعارضة العربية لسياسة السادات «السلامية» تجاه الكيان الإسرائيلي. تتلخص مواقف عادل إمام التي يمكن استنباطها من متابعة مجمل أعماله وكلامه ومقابلاته في أن مصر كانت ولا زالت تؤدي ما عليها من واجب تجاه فلسطين، وزيادة! وبالتالي، لا يحق لأحد أن «يزاود» على مصر في الموضوع الفلسطيني لأنّ لا أحد «قدم للقضية مثل مصر».
في سنة 2005، أدى عادل إمام بطولة فيلم «السفارة في العمارة» الذي يظهر فيه معارضة الشعب المصري للتطبيع وتأييد الشعب الفلسطيني. ونحن نعتقد أن ذلك كان من باب ذر الرماد في العيون، لا أكثر.
وفي بداية 2009، انبرى عادل إمام للدفاع عن النظام المصري الذي كان يتعرض لموجة انتقادات واسعة بسبب موقفه المتقاعس تجاه العدوان الإسرائيلي الكبير على غزة، فظهر على التلفزيون وقال: «لن يستطيع أحد أن يفعل شيئاً لإسرائيل، فهي منظمة جداً، وناس عارفة تعمل إيه بالضبط، وإذا قالت سأقوم بشيء تقوم به». وأضاف قائلاً وهو يلقي بالمسؤولية على الفلسطينيين «أنا غاضب جداً من الذي يحدث في غزة. كيف لي أن أحارب شخصاً وأنا أعرف قوّته وأضربه بالصواريخ؟ إزاي تحارب واحد وعارف قدراته إيه! فالطرف التاني مش هيبعتلك ورد، التاني هيبعتلك صواريخ وهيضربك». وأضاف بشأن المظاهرات الشعبية التي كانت تخرج تأييداً للشعب الفلسطيني «إحنا زهقنا من المظاهرات دي، ما بشوفش تصريحات بالروح بالدم نفديك يا ساركوزي، ولا بالروح بالدم نفديك يا إنكلترا». واختتم تصريحاته بالإشارة إلى أنّ قادة حماس «يأخذون قرارات، وهم قاعدون في الجاكوزي».
هذه التصريحات بعثت السرور في الكيان الصهيوني إلى درجة أنّ المسؤولين الإسرائيليين عن الإعلام ظلوا يستخدمونها في دعايتهم الموجّهة للعرب لسنوات تلت. وفي أواخر 2018، قامت صفحة «إسرائيل بالعربي» بإعادة نشر تصريحات عادل إمام مع فيديو المقابلة على موقع فايسبوك.
وفي سنة 2013، أسهم عادل إمام في تشويه صورة الشعب الفلسطيني في مشهد من مسلسل «العراف» الذي عُرض في شهر رمضان. يومها، صوّر المشهد أشخاصاً ملثمين يرتدون الكوفية الفلسطينية ويقتحمون السجون المصرية ويهرّبون المساجين في أحداث «ثورة 25 يناير». وهذه محاولة مفضوحة لتأكيد رواية وادعاءات الداخلية والأجهزة الأمنية والإعلام التابع لها بأن من فتح السجون وهرّب المساجين (ومن ضمنهم الرئيس محمد مرسي) هم جماعات مسلحة تنتمي إلى حركة «حماس» الفلسطينية.
ولكن، وللإنصاف، فإن مما يُذكر لعادل إمام أنه طوال مسيرته الطويلة لم ينخرط في أي شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني. لم يزُر «إسرائيل» ولم يُقِم علاقاتٍ معها. لم يلتقِ بإسرائيليين في مؤتمرات، ولم يتلقط صوراً معهم. بقي بعيداً عن «إسرائيل» جملةً وتفصيلاً.

الثراء
تراوح التقديرات لثروة عادل إمام ما بين 100 إلى 250 مليون دولار، وفق مصادر صحافية متنوعة. ثروة كبيرة بلا شك للرجل الذي بدأ حياته فقيراً في حي السيدة زينب في القاهرة. الانقلاب في أحوال إمام انعكس على أدواره التي يؤديها في أعماله. منذ سنة 2000، بدا أنّ الفنان «عادل بيه إمام» صار في منطقة اجتماعية أخرى، فنياً. انتقل إلى طبقة علية القوم، وانتقلت الشخصيات التي يلعبها من شخصيات الفقراء والبسطاء والهامشيين إلى الشخصيات صاحبة النفوذ في الدولة والمجتمع. وبتنا نرى عادل إمام رجلَ أعمالٍ ثرياً، أو وزيراً، أو باشا، أو أستاذاً جامعياً وصولاً إلى... الزعيم! وهو اللقب الذي اختاره لنفسه وارتضاه كميراث له.
* كاتب وباحث من الأردن