لم يخرج السوري خالد خليفة (1964) في روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (2013، «دار العين» - القاهرة) من الفضاء الحلبي، كأنه يستكمل ما فاته في روايته «مديح الكراهية». يرمم المشهد بتاريخ مفصلي عاشته البلاد، هو استلام حزب البعث السلطة (1963)، التاريخ الذي يولد فيه الراوي، وهو الشقيق الأصغر لعائلة حلبية وجدت نفسها في مهب التحولات الجديدة. هكذا سيقبض الراوي على مفاصل ما حدث ويحدث في حياة هذه العائلة التي تتشظى مصائرها إلى كل الجهات. تتداخل الضمائر في تفكيك آلية الاستبداد، ومعنى العار في طبقاته المتعددة.
ذلك أن الوقائع تتمحور حول تلك الحياة الموازية التي ألقت بثقلها على قيم هذه العائلة التي لم تنجُ من تأثيرات الهواء الفاسد الذي أخذ يتنفسه الجميع مرغمين. تموت الأم بالتوازي مع موت «الأب القائد»، ليتكشّف المشهد عن خراب عمومي تعيشه حلب كمدينة، مثلما تعيشه هذه العائلة كأفراد. تتناسل الحكايات من كل الجهات، إذ يتكفّل الراوي بهتك العوالم السريّة لشخصياته بلغة مشحونة بالثأر. نحن إزاء جردة حساب عمومية مع أربعة عقود عاصفة، انتهت إلى الاحتضار والتحلل والتفكك، ما يجعل مهمة الراوي عسيرة في توثيق مسالك أفراد العائلة، نظراً لثقل الخسارات. تتداخل الأزمنة والتواريخ والوقائع، وتندحر الذكريات السعيدة للعائلة، إثر هروب الأب بصحبة امرأة أميركية، وانخراط «سوسن» الابنة الكبرى، في غواية العنف السلطوي بانتسابها إلى الحزب، لتتحوّل لاحقاً إلى خيارات أخرى، تعبّر عن اضطرابها أكثر من قدرتها على المواجهة أو التحدي. الهواء أثقل من أن يساعدها للتحليق بعيداً عمّا يجرّها إلى عمق البئر المتعفّنة، وتالياً خضوعها لمتطلبات الحياة الفولاذية القسرية المفروضة على الجميع. وهنا لن نستثني شخصية الخال الذي يعيش مثليته الجنسية كنوع من الإعاقة، رغم محاولته التمرّد على محيطه المغلق. يُخضع خليفة شخصياته لشروط حياتية لم تخترها، وإذا بالراوي يتحكّم هو الآخر ـ بنوع من الاستبداد ـ في مصائرها، وفقاً للوصفة المسبقة التي تلح عليه في رسم الحياة الموازية. وتالياً، فهي شخصيات منخورة في الأصل بسطوة الشعارات المتراكمة التي أدخلها العسف الأمني إلى أرواح هؤلاء البشر، وقبل ذلك كله، إلى روح المدينة العريقة بحجارتها وموسيقاها ورائحة توابلها. ذلك أن هذه الرواية، في أحد أطيافها، مرثية لحلب وهي تحتضر، تحت وطأة العنف والعار والموت البطيء. حفلة جنون جماعية فوق خشبة مهتزّة، تتداخل فيها الأصوات والاستغاثات والاتهامات، عن بلاد غارقة في الهذيان والسخط والفوضى. وفي المقابل تتناسل الحكايات المتشابكة بين جغرافيات مرتحلة. لكن حلب وحدها تبقى جوهر المجاز، في رفعتها القديمة، وحاضرها الرثّ، وهنا يتخذ السرد طابعاً دائرياً، فما أن تغلق دائرة حتى تُفتح دائرة أخرى، من دون أن يجد أحد نهاية لهذا الكابوس الطويل، فيما يغلق الراوي حكاياته المتشعبة على مشهد جنازة الأم الذي افتتح به هذه المتاهة.



خالد خليفة: «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» ــ دار العين، القاهرة