إن إقفال المعتقل أي معتقل لا يعني إسدال الستار على هذه الصفحات السوداء من تاريخ الإنسانية. فمعظم المعتقلات الفاشية في البلدان الأوروبية والعالم تحولت إلى متاحف سياحية وثقافية. إعادة إحياء الذاكرة لا تعني العودة إلى الماضي، بل كي تبقى ذاكرتنا حية وأن لا يلفها النسيان، فالذاكرة تتجاوز بما لحق بنا وبشعوب أخرى من حروب وتعذيب وخطف وقهر ومجازر واحتلال وتدمير.الذاكرة هي التاريخ، ومهما كانت قاسية ومؤلمة هي فلسفة الأجيال والحقيقة الحية التي لا يمكن لشعب أن يتطور وينهض إن فقد ذاكرته ووعيه وتراثه. الذاكرة هي العقل والقلب وحكايات الشعوب. هي العدالة وحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب وعدم الإفلات من العقاب.
■ ■ ■

انطلاقاً من هذه الرؤية للذاكرة، نقدّم في الذكرى الـ 21 لإقفال معتقل الخيام، لشعبنا ولشعوب العالم ولكل المؤسسات الحقوقية والثقافية والعالمية والإنسانية العربية والدولية، «موسوعة معتقل الخيام ــ القصة الكاملة» منذ إنشائه بعد إغلاق معتقل أنصار بتاريخ 3 نيسان (أبريل) 1985 وحتى إقفاله في 23 أيار (مايو) عام 2000.
الموسوعة ليست تحقيقاً صحافياً ولا بحثاً تاريخياً عن نشأة الحركة الأسيرة وتطورها، ولا أُطروحة في القانون الدولي ومعاملة السجناء ولا توثيقاً لأنشطة اللجنة والتجمع من تقارير وبيانات واعتصامات ومعارض.
«موسوعة معتقل الخيام» هي سفرُ تجربة تاريخية تمتد من تأسيس «تجمّع معتقلي أنصار» في آذار (مارس) عام 1984 و«لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين» في 24 أيلول (سبتمبر) 1993 و«مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» في 26 حزيران (يونيو) عام 2000.
■ ■ ■

تجربة نضالية عمرها 38 عاماً حققت إنجازات هائلة على صعيد قضية المعتقلين والمحررين وعائلاتهم، فكنّا أولَ ملصق وبيان ووثيقة واعتصام، واستطعنا أن نحوّل قضية المعتقلين من قضية منسية إلى قضية رسمية إنسانية عالمية وتوليد حركة تعاطف عربي ودولي وتقوية روح الصمود للمعتقلين وعائلاتهم، وإثارة قضية المبعدين ومجمل الممارسات الإسرائيلية الوحشية بحق المدنيين، والمشاركة مع منظمات محلية وعالمية في إطلاق «الحملة المحلية والعالمية لكشف مصير المفقودين» أينما كانوا، وتنظيم حملة عربية وعالمية تضامنية مع المعتقلين الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية، والدفاع عن سجناء الرأي والضمير في السجون العربية، وتكريس تشريعات قانونية رسمية لتطوير التقديمات الاجتماعية للأسرى المحررين وعائلاتهم منذ عام 1992، وتكريم الأسرى المحررين وتقليدهم أوسمة الحرية، وإطلاق حملة التأهيل الصحي والاجتماعي والنفسي والمهني بتأسيس «مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» و«بيت الأسير اللبناني» في الجنوب.
من صفحة Lebanon Archives

فالحملة التضامنية المحلية والعالمية التي نظمتها اللجنة بالتعاون مع كافة المنظمات الاجتماعية والحقوقية والإنسانية والاحتضان الوطني والرسمي فرضت على قوات الاحتلال الإسرائيلي فتح أبواب المعتقل في عام 1995 أمام الأهالي والصليب الأحمر الدولي بعد عشر سنوات من إبقائه في عزلة تامة عن العالم. إنه الإنجاز التاريخي الأول للجنة. استطاعت الحملة التضامنية التي نظمناها في كافة أصقاع الأرض أن تضغط على إسرائيل للإفراج عن دفعات متتالية من المعتقلين من معتقل الخيام وسجون الداخل.
«موسوعة معتقل الخيام» هي المقاومة الحقوقية والإعلامية والديبلوماسية والاجتماعية التي أسسناها بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، هذه المقاومة التي نعتزّ بها ونفتخر بتأسيسها وإنجازاتها، تتحول اليوم إلى موسوعة تاريخية لتكون شاهداً على الإجرام الإسرائيلي وتبقى حية في الذاكرة، ذاكرة الأجيال والأحفاد والأزمان.
ليست الموسوعة لمعتقل الخيام فحسب، بل صفحات نضال لشعب وانتفاضات ومقاومة من خلف القضبان.
■ ■ ■

تتألف الموسوعة من ثمانية عشر فصلاً: معتقل الخيام بديلاً لمعتقل أنصار، ونبذة عن الباستيل الصغير، المعتقل المنسي، والوثيقة الأولى عن المعتقل، شهداء معتقل الخيام، رسائل مهربة من المعتقل، أطفال ومسنون رهائن، الأوضاع الصحية في المعتقل، شهادات أسيرات محرّرات (107 شهادة)، شهادات أسرى محررين (94 شهادة)، 14 تموز يوم الأسير اللبناني، 7 تشرين الثاني يوم المعلم المعتقل، التحرك الدولي في لجنة حقوق الإنسان في جنيف وباريس، مؤتمرات العزل، منظمة العفو الدولية وقضية المعتقلين، زيارة المحامية الفرنسية مونيك بيكار دويل، الانتصار التاريخي الأول للحملة التضامنية، اعتصامات أمهات الخميس، اليوم العالمي لإقفال معتقل الخيام، إطلاق سراح سهى بشارة، 23 أيار إقفال معتقل الخيام، رحلة الأسرى المحررين إلى إيطاليا، الحملة التضامنية وعمليات الإفراج، ملف العملاء وإطلاق سراح عامر الفاخوري، أول وثيقة عن المفقودين، تقارير دولية وملصقات....
■ ■ ■

الموسوعة جزء من الأرشيف التاريخي لتجمّع معتقلي أنصار ولجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين، وكل فصل منها يمكن أن يكون كتاباً ولكني حاولت الإيجاز والاختصار.
وهي لن تقتصر على معتقل الخيام، ستليها سلسلة من كتب حول المعتقلين اللبنانيين في سجون الداخل، وقضية المعتقلين ودورات لجنة حقوق الإنسان الدولية، والمفقودين، وأمهات يكسرن الصمت، وثائق لجنة المتابعة وتقاريرها، المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، قضية الأسرى المحررين، «بيت الأسير اللبناني تجربة رائدة»، كتاب عن أول مؤتمر لمناهضة التعذيب عام 2003 في الاسكوا، ومحاور أخرى في سياق مشروع إحياء الذاكرة وعدم تغييبها ونسيانها.
التعذيب الوحشي الذي تعرض له المعتقلون خلال 15 عاماً جريمة لا تسقط بالتقادم


لا ندّعي أن الموسوعة أحاطت بقضية المعتقلين من كافة جوانبها، فهي لم تشمل المعتقلين اللبنانين في سجون الداخل، وسيكون هناك كتاب خاص عن أعدادهم وتوزعهم في السجون وشهادات وتقارير دولية، ولا كانت الشهادات شاملة لآلاف الأسرى والأسيرات. شهادات حررتها في فترات تاريخية مختلفة، وكم كنت سأكون سعيداً لو استطعت الوصول إلى عدد أكبر، فعذراً على هذا التقصير أو أي خطأ في تواريخ الاعتقال والإفراج. وإنني أرحب بكل نقد وملاحظة تسهم في إغناء الموسوعة وتطويرها.

■ ■ ■

أبرزت الموسوعة الدور النضالي التاريخي للجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين التي شكّل تأسسيسها مرحلة جديدةً ونوعيةً في تطوير الحملة التضامنية لتحرير المعتقلين ورعايتهم. وكان انخراط عدد من النواب في المجلس النيابي اللبناني في تأسيسها وأنشطتها، عاملاً مساعداً على الصعيد المحلي والدولي، وضاغطاً على كافة الحكومات اللبنانية المتعاقبة. تجربة لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين تنظيمياً وإدارياً ونضالياً من التجارب العالمية الهامة تضاف إلى تجارب الحركات الأسيرة والمقاومة للفاشية والاحتلال الإسرائيلي في بلادنا العربية والعالم. وأزعم أنها شكلت نموذجاً وإطاراً ديموقراطياً مستقلاً بعيداً عن البيروقراطية والفئوية الحزبية الضيقة. تجربة حقوقية عالمية أبطالها متطوعون ومتطوعات حققت معظم أهدافها، فانتصرت حملة التضامن العالمية، وأقفلت معتقلات أنصار والخيام ومراكز الاحتجاز الإسرائيلية وحققت مكتسبات اجتماعية ومعنوية هامة للناجين من المعتقلات ولعائلاتهم، فكان دورها أساسياً الى جانب قوى ومنظمات أخرى لبنانية وفلسطينية وعربية ودولية.
تجربة باتت ملكاً لكل المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان في العالم.
■ ■ ■

في ذكرى إقفال معتقل الخيام، أدعو الباحثين وطلاب وطالبات الجامعات في لبنان والعالم العربي الى دراسة هذه التجربة التاريخية والاطلاع على أساليب عملها وفلسفتها في التنظيم والنضال، وكل وثائقنا وبياناتنا في تصرف الراغبين في إعداد الدراسات عن اللجنة وأسباب نجاحها ومقومات استمرارها.
تجربة اللجنة يواصلها وليدها «مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» الذي حصل على الصفة الاستشارية في الأمم المتحدة في عام 2010 وبات مركزاً إقليمياً وعالمياً للدفاع عن حقوق الإنسان ومناهضة العنف والتعذيب في لبنان والمنطقة العربية والعالم.
■ ■ ■

نطلق الموسوعة من أمام بيت الأمم المتحدة، حيث نظمنا عشرات الاعتصامات وأقمنا خيم الحرية للمعتقلين وللمفقودين، ومناهضة التعذيب، موسوعة تتخطى التوثيق التقليدي، أو مجرد الالتفات إلى الماضي ومآسيه.
نطلق الموسوعة، رحلة الحرية للمعتقلين تروي قضية كفاح 38 عاماً من الكدّ والنحت والرسم في الأرض والبر والبحر، نطلقها ليس للذاكرة فقط، بل نطلقها لتكون الإعلان عن انطلاقة جديدة في رحلة نضالنا الحقوقي والإنساني، وتقييم تجربتنا السابقة من «تجمع معتقلي أنصار» و«لجنة المتابعة» و«بيت الأسير»، بما فيه «مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» لتحويلها الى مركز عالمي للدراسات والذاكرة.
من صفحة Lebanon Archives

■ ■ ■

ونطلقها ثانياً دعوة لإعادة فتح ملف مقفل الخيام والتأكيد بأن إقفاله أو تدميره لا يعني نسيانه، بل إبقاء ملف هذا المعتقل مفتوحاً إلى الأبد وأن التعذيب الوحشي الذي تعرّض له المعتقلون خلال 15 عاماً لا يسقط لا بالزمن العشري ولا بالمائه، فالتعذيب جريمة متمادية لا تسقط بالتقادم.
أليس مخجلاً أن يقوم المحامي الاسرائيلي ايتاي ماك و75 ناشطاً اسرائيلياً في 28/1/2021 بعقد اجتماع والدعوة لفتح ملف معتقل الخيام والتحقيق بجرائم التعذيب التي نفذت بحق المعتقلين والكشف عن وثائق جهاز الشاباك في مناسبة مرور 20 سنة على الانسحاب الإسرائيلي؟
أليست هذه الدعوة من قبل إسرائيليين إدانةً لتقصيرنا جميعاً حكومات ومحامين ونقابات وأحزاباً ومنظمات حقوقية وإنسانية محلية وعالمية؟!
مبادرة المحامي الإسرائيلي تستحق الوقوف أمامها مهما كانت دوافعه، مطالباً ومناشداً كل محامي لبنان والعالم العربي والعالم لإعادة فتح ملف التعذيب في معتقلي الخيام وأنصار وكافة الانتهاكات والمجازر التي نفذتها إسرائيل بحق الشعب اللبناني والفلسطيني والعربي وما زالت تنفذها حتى اللحظة في القدس وغزة وحيفا وسجونها. جرائم حرب مروعة مخالفة لكل الأعراف والقوانين، ولتكن هذه الموسوعة بداية رحلة الذاكرة والمقاضاة وعدم الإفلات من العقاب.
وثالثاً لتكون بداية مشروع أولي نحو إقامة معرض دائم للذاكرة على أرض معتقلي الخيام وأنصار يضم الكتب وأسماء المعتقلين والشهداء والكتب والملصقات والأشغال اليدوية التي أبدعها المعتقلون وضحايا الإخفاء القسري وعائلاتهم من رسائل وأشياء خاصة.
■ ■ ■

«موسوعة معتقل الخيام ـ القصة الكاملة»، رسمناها، نحتناها، نسجناها من صقيع المعتقل وعامود التعذيب ومانيفل الكهرباء والجوع والعطش والقن والشوق للحرية وحنين الأمهات.
قصة نواصل نقشها فوق الغيوم والفصول.
نعزفها فلسطين، نرتّلها القدس، لكنها ستبقى قصة غير كاملة.
* الأمين العام للجنة المعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا