لا شك في الدور المهم الذي تؤدّيه السينما في النضال التحرري، والدور الاستثنائي للأفلام النضالية الجيدة، الوثائقية والروائية، في تحقيق تواصل مع شعوب العالم وشرح قضايانا. نحن، الفلسطينيين، في حاجة دائمة لمنع سقوط قضيتنا في غياهب النسيان بسبب حماقة قيادة أوسلو في المناحي كافة، وتحويلها النضال الوطني الفلسطيني التحرري إلى نزاع عقاري مع كيان العدو الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري. كتاب «الحبّ والمقاومة في أفلام مي المصري» (منشورات بالغريف ـ 2020) لفيكتوريا بريتن، يقارب أفلام السينمائية الفلسطينية مي المصري، المقيمة في بيروت، هي التي شكّلت مع زوجها الراحل جان شمعون ثنائياً نضالياً في مجال الفن؛ فكيف ننسى «بعدنا طيبين، قول: الله» الذي كان يؤديه الراحل الكبير مع الفنان الاستثنائي زياد الرحباني.
أخرجت المصري مجموعة من الأفلام الوثائقية يتعلق أكثرها بمختلف جوانب نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية وتجلياته. وظلت هويتها الوطنية مثل الفلسطينيين، بوصلتها. فقد كان الطرد والنفي والبعد عن العائلة القريبة تجارب أساس لطفولتها وشبابها، كما تقول الكاتبة الإنكليزية التي عملت مراسلة أجنبية ومحررة خارجية مساعدة لصحيفة «غارديان» اللندنية، وكرّست أعمالها لسرد القصص الإنسانية للنساء والأطفال والفنانين والصحافيين والممثلين والمزارعين الذين عاشوا حياة الفرح والكرامة في سياق الحروب والسجون ومخيمات اللاجئين.
الكتاب رواية حميمة عن مي المصري فنانة وامرأة وصديقة للكاتبة وناشطة تطورت أعمالها مع الوقت، لكنها لم تتعثر في سرد قصة الفلسطينيين الذين يتجاهلهم التاريخ. هنا لا بد من تذكر كلمات الشاعر الفلسطيني الكبير تميم البرغوثي في أجمل ما قاله الشعر عن القدس «صرة فلسطين»: «أرأيتها ضاقت علينا وحدنا.. يا كاتب التاريخ ..ماذا جد فاستثنيتنا.. يا شيخ فلتعد القراءة والكتابة مرة أخرى أراك لحنت». تضيء الكاتبة على الطموحات والنضالات وتجذر واحدة من أهم صانعات الأفلام المعاصرات في العالم العربي، اعتماداً على التحليل العميق لبعض أعمالها وأبحاثها، إضافة إلى المقابلات المكثفة، وهو مورد مهم وملائم للمهتمين بالثقافة والسينما وكذلك للباحثين من العالم العربي كما رأى ذلك نقاد عديدون. إنه مؤلف يثني على السينمائية الفلسطينية التي تروي أفلامها عبر فلسطين ولبنان قصصاً عن أناس لم يُسمع بهم من قبل في البلدين. تحدثت المخرجة الفلسطينية في الكتاب عما دفعها إلى ميدان السينما عندما كانت تدرس في الولايات المتحدة. تقول: «بالمصادفة دخلت صف الأستاذ الفرنسي برترند أوغست الذي كان يدرّس التحليل الفكري للفيلم لأعمال هيتشكزك وغودار وآلان رينيه على أساس السِّميولوجيا والتحليل النفسي (لاكان وفوكو). هذا ما كنت أبحث عنه، من دون أن أعرف ذلك. أصبحت مهووسةً بالسينما وجرفتني فصولي الدراسية والمكتبة والأفلام. لقد كان وقتاً غنياً بالفرص لمشاهدة أوسع عوالم السينما». في بيركلي، التي كانت مقر أرشيف أفلام المحيط الهادئ الذي خُصص لعرض الأفلام الدولية والأرشيفية والتجريبية، واجَهَت بعض التأثيرات السينمائية الرائعة التي تحبها من الواقعية الإيطالية الجديدة إلى كوستا غافراس وبونتيكورفو والإيرانيين وسينمائيي أميركا اللاتينية... أفلامها المفضلة تضم الشريط الوثائقي The Battle for Chile من إخراج باتريسيو غوزمَن، وMan with a Camera للسينمائي السوفيتي دزيغا فيرتوف، وفيلم Z لكوستا غرافراس... أفلام منحتها الاتجاه الذي ستتبنّاه في صناعة الأفلام المكرسة للأصالة التاريخية. وتضيف: «كانت مايا ديرين سينمائية الأفلام التجريبية والشاعرة ومصممة الرقصات الأميركية في الأربعينيات مصدر إلهام مباشراً لي كونها امرأة لها صوتها الخاص في عالم سينمائي يهيمن عليه الذكور». تتحدث الكاتبة بعمق عن أعمال المصري كرونولوجياً إلى حد ما، عبر عشرة فصول يبدأ أوّلها بأحدث أعمال مي وأول أفلامها الروائية الطويلة «3000 ليلة – قصة حقيقية». كتبت المخرجة أحداث الشريط استناداً إلى القصص الحميمة للسجينات الفلسطينيات وله خلفيته في أكثر الأحداث الواقعية دراماتيكية التي عاشتها خلال 30 عاماً كصانعة أفلام وثائقية. يحمل الفيلم خيال المشاهد بعمق إلى عالم مجهول. إنه التعبير الأكثر طموحاً واكتمالاً عن انشغالات مي مدى الحياة بموضوعين أساسين للتجربة الفلسطينية هما: السجن ودور النساء، أمهات وناشطات سياسيات ومقاتلات. يشرّع «3000 ليلة» نافذة واسعة للنظر في سنوات عملها في صناعة الأفلام التسجيلية التي تم عرضها وتحليلها ترتيباً زمنياً في الفصول اللاحقة. جاءتها خلفية «3000 ليلة» في لقاء مع أسيرة سابقة في منتصف الثمانينيات في نابلس عندما كانت تصوّر «أطفال النار» (1990)، أول أفلامها الوثائقية الثلاثة عن الأطفال في الحرب الذين تعرضوا لتجارب التهجير والاحتلال، وهو موضوع رئيس في الفصل الثاني «الإسرائيليون وبيتي - نابلس وشاتيلا: «تحت الأنقاض» (1983)؛ «أطفال النار» (1990)». تقول الكاتبة إن الصور الافتتاحية العنيفة لهذا الفصل، تظهر معموديتها الشخصية للنار في تصوير قصف العدو الصهيوني وحصار بيروت عام 1982. هذه، مثل الصور من مخيم شاتيلا الفلسطيني المدمر، تتكرر في الأفلام تقريباً ذاكرةً جماعيةً، بما في ذلك الجيل الأصغر الذي يعرفها بوضوح حتى من القصص المتكررة لكبار السن. وتضيف الكاتبة إن أفلام مي جميعاً ترتبط ارتباطاً أساساً، وغالباً ما يظهر الأشخاص أنفسهم والأحداث التاريخية في الأفلام التي تفصل بينها سنوات، كما هي الحال في الفصل الثالث «التعذيب والحب في جنوب لبنان: «الزهور البرية - نساء جنوبي لبنان» (1986)، و«نساء خلف الحدود» (2004)». يستكشف هذا الفصل موضوع مركزية المرأة في النضال عبر ثلاث نساء في كلا الفيلمين، وتجاربهن في السجن. عِلماً بأن تجاربهن الحية كانت أساساً لصنع «3000 ليلة» في نهاية المطاف. في الفصلين الرابع «الخط الأخضر: «جيل الحرب - بيروت» (1989)» والخامس «المفقودون: «أحلام معلقة» (1992)؛ «فوانيس الذاكرة (2009)»، نرى تركيز المخرجة على الحرب الأهلية في لبنان والعبثية في سنوات الحرب تلك، ثم الصمود من أجل إعادة البناء. يركز الفيلم الثاني على الجرح المفتوح لـ 17000 مختفٍ وكيف تجد عائلاتهم القوة في تصميمهم المشترك على التذكر، والعثور على إجابات لما حدث لأفراد أسرهم.
الفصل السادس «فلسطينتي، شاتيلا: «أطفال شاتيلا» (1998)» هو الفيلم الثاني لثلاثية الأطفال في الحرب، وهذه المرة يدور في لبنان، في مخيم شاتيلا الفلسطيني، وتحمله أحلام طفلتين مركزيتين ومخيلتهما. تم فحص الجزء الثالث من الثلاثية في الفصل السابع «إنها بلادي: «حدود الأحلام والمخاوف» (2001)» الذي يجمع الأطفال من مخيمات اللاجئين في كل من «الضفة الغربية» وبيروت. لقطات تاريخية فريدة التُقطت عام 2000 على الحدود مع اندحار جيش العدو الصهيوني، وهي تفحص حياة الأطفال لجهة علاقتها بالتاريخ والذاكرة. الفصل الثامن «متحف الذاكرة، «يوميات بيروت» 2006» تدور أحداثه في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. أما الفصل التاسع «فليرَ العرب: «33 يوماً» (2007)، فتدرس مي تأثير الحرب في المدنيين خلال صيف عام 2006 وتدور أحداث الفيلم في مكانين في بيروت: داخل مسرح حيث يجد عشرات الأطفال النازحين منزلاً، وداخل محطة تلفزيونية حيث يشكل الصحافيون قصة الحرب من زملائهم في الخطوط الأمامية ويرسلون تقارير عن الرعب الذي يصعب نقله. الفصل العاشر والأخير «واصلي السير: «حنان عشراوي - امرأة عصرها» (1995» هو مثال غير عادي على صناعة أفلام مي من خلال التركيز على قصة شخص واحد، الناشطة الأكاديمية حنان عشراوي. تكشف عن صورتها المليئة بالفروق الدقيقة والتعقيد بعيداً من الصورة القياسية لامرأة أصبحت لفترة وجيزة الوجه العام الجديد لفلسطين [!] وفق الكاتبة.
Love and Resistance in the Films of Mai Masri - PALGRAVE 2020



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا