منذ أسبوع، وفلسطين تحتلّ قلب العالم، لتهزّ الضمائر بصور المجازر وبتاريخ طويل ومستمرّ من التسامح مع الاستعمار وسحق أهل الأرض وأولادها. فرنسا الرسمية، بسلوكياتها وسياساتها وإعلامها، انحازت بشكل فاقع للجلّاد والمحتلّ، قامعةً أيّ صوت منادٍ بمُثُلها العليا قبل أي شيء آخر.
لوحة دولاكروا الشهيرة «الحرية تقود الشعب» (1830)


المسرحي اللبناني المعروف روجيه عسّاف توجّه برسالة مفتوحة إلى الدولة الفرنسية، مذكّراً إياها بتاريخ شعبها وثورته وتمرّده من أجل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. هنا ننشر الترجمة العربية للرسالة:

سيدتي العزيزة
أنت وريثة النهضة الإنسانية وعصر «التنوير» والثورة الفرنسية.
أحببتك حين ظهرت لي، صدراً عارياً وقبضةً حازمةً، قائدة شعب باريس فوق متاريس ثورة «الثلاثة المجيدة» (1). آمنتُ بمُثلك العليا: القيم الجمهورية، الديمقراطية، احترام الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان.
إنّ ولائي لك ووفائي لهذه المثل يدفعانني اليوم إلى إطلاعك على تساؤلاتي:
1 - لماذا تدعم الجمهورية العلمانية الفرنسية الدولةَ القومية اليهودية ولماذا تدين «العرب المسلمين» الذين «يحتلّون» جزءاً من أورشليم، «عاصمة مملكة يهوذا منذ الملك داود»؟
2 - لماذا لا تنطبق على الفلسطينيين «حقوق الإنسان والمواطن»، التي تتصدّر الدرجة الأولى في قائمة القيم المبدئية للجمهورية الفرنسية منذ 26 آذار (مارس) 1789؟ لماذا لا تدافع فرنسا عن «حقوقهم الطبيعية، الفردية والعامة: حقوق الحرية والمُلكية والسلامة ومقاومة الاضطهاد»؟
3 - لماذا تتسامح الدولة الفرنسية مع استعمار «الأراضي المحتلّة» الذي تدينه الأمم المتحدة بنفسها؟
الخ، الخ، الخ
إنّ لائحة التساؤلات طويلة جدّاً، غير أنّها أصبحت بالية ومبطلة، نظراً إلى ما نشهده اليوم: لقد عادت فلسطين لتتصدّر قلب العالم الحر.

سيدتي العزيزة
ليست الحرب الراهنة في فلسطين «هبّة عنفية»، بل ثورة من أجل العدالة والحرية. ليست الحرب الراهنة في فلسطين صراعاً بين «مسلمين» فلسطينيين و«يهود» إسرائيليين، بل حرب تحرير، نضال وطني يخوضه الشعب الفلسطيني ضد احتلال ظالم واستعمار متوحّش. (ملاحظة: هناك يهود يدعمون المقاومة الفلسطينية ومسلمون يعارضونها).
هذه الحجارة لطالما كانت على موعد مع الفتى، الذي وُلد هنا، من رغبة فلسطينية، رغبة مخبّأة في سرّ حجارة... فلسطينية


كلّا ثمّ كلّا، ليس العنف في فلسطين نزوة أصوليّة معادية للسامية (ولو أنّه لا بد من الاعتراف أنّ هذا الميل الكريه موجود، وأنّه يوازي في مَقتنا المذابح وعمليات الترويع التي يقترفها اليهود المتطرّفون بحق العرب). سيّدتي العزيزة التي أحببناها، أنا لست خبيراً سياسياً، ولكن ذلك ليس حائلاً بالنسبة إليّ لمعرفة على أي جانب من المتراس يجب أن أقف: جانب مناصري جيش «فرساي» (2) أو جانب مناصري «الكومونة»، منطق الدولة أو فتنة الشعر. أجل، سيّدتي العزيزة، هناك حقيقة دامغة تحلّق فوق تاريخ البشر: إن المعارك والفتوحات والهزائم سريعة الزوال، أما الشعر فيخلد. وأؤكّد لك، من دون تردّد:
إن فلسطين شِعر...
تلك هي قوتها التاريخية، التي لن تمتلكها Eretz Israel أبداً. لأنّ الأرض تلتحم بالناس، وتمنح لهم خفقاناً سرّياً لا يستطيع إدراكه أحدٌ غيرهم.

«حنظلة» ناجي العلي

حرّية
مراهق يركض بحرّية في شوارع مدينته، وحجارة بيده. يُفرد جسده بحرّية في غمرة الضوء ويرمي الحجارة بحرّية ضدّ وحش من حديد يحتمي فيه رجال بلا وجوه، مكبّلين بالخوف والكراهية. بين هذا الفتى وحجارته لحظة سحرية، ربما مفتاح لغز: هذه الحجارة لطالما كانت على موعد مع الفتى، الذي وُلد هنا، ولد من رغبة فلسطينية، رغبة مخبّأة في سرّ حجارة... فلسطينية.

ذاكرة
الحرب جهالة، والشقاء اختبار. يجهل العسكر أنّ غضب الحروب عاقر، ولا يقدّر مكابدة الأشجار المجتثّة وتصبّر المقابر التليدة.

سلام
يقال إنّ الأطفال المقتولين يصعدون مباشرةً إلى الجنّة. إذاً، هذا المساء، أطفالٌ من غزة يغنّون في وفاق مع أطفال من أؤشفيتز (معتقلAuchwitz).
روجيه عساف
(1) لوحة دولاكروا الشهيرة «الحرّية تقود الشعب» عن الثورة الشعبية في باريس سنة 1830
* (2): جيش «فرساي» هو الجيش الحكومي الذي سحق «كومونة» باريس سنة 1871