تحمل النساء على عاتقهن أكثر من مهمّة السرد. هن القصّة نفسها، إذا أردنا أن نلطّف تسمية هذه الحكايات. هن صانعاتها في عرض «كما روتها أمّي» لعلي شحرور (كوريغرافيا وإخراج). يبعثنها بأصواتهن وبأحلامهن وبانتصاراتهن الصغيرة التي تطيح بالمعارك الكبرى. لم يأتِ شحرور، بالجسد إلى صلب التقاليد الثقافية والدينية المحلية، بل حرص، بدلاً من ذلك، على ألا يجرّد الأجساد من ذاكرتها. انطلق من هذه الذاكرة نفسها، بحركيّة لا تتنازل عن الملامح الأولى للجسد بتماهيه مع طقوس إرث كربلاء، وأساطير بلاد ما بين النهرين، وبتأثّره بالنصوص والسرديات المقدّسة كما في «فاطمة» (2014) و«موت ليلى» (2015)، و«عساه يحيا ويشمّ العبق» (2017).

في عمله الجديد «كما روتها أمّي» الذي ينطلق مساء اليوم على «مسرح المدينة» (الحمرا – بيروت)، يستمرّ الراقص والكوريغراف اللبناني في تجديد لحظة الفجيعة، غير أنها خسارات فرديّة لا تضيع في مآسي النصوص الدينية المتجذّرة بقدر ما تصبح فيها هذه الأخيرة جزءاً من منامات أو حكايات خفرة. خيارات جمالية وحركية، وسياسية جعلت علي شحرور يتّخذ من السقوط والانزلاق واللطم والعويل، والرقص الشرقي حركة لجسده وأجساد راقصيه، مقابل الصعود الرمزي للجسد في الانتصارات. وجد مساحة لكلّ ذلك في العمل مع راقصات غير محترفات، اقتنصن تعبيرات المرأة القصوى في لحظات الحزن والفرح. وفيما كان شحرور قدّ كسّر بأدائه الفردي هالات الجسد الرجولي، اختار هذه المرّة العمل مع شاب غير محترف للمرّة الأولى. يبحث العرض الجديد عن الطراوة في الجسد المحارب، يفكّكه ويعيد تشكيله في تشريح لمعنى البطولة. سنرى كيف يبعثه إلى الحياة مجدّداً، واقعيّاً لا مجازياً، حين يوقظه الرقص من مصيره المحتّم.
ينطلق العرض من السرد وإليه. هذه المرّة إلى القصّة التي طبعت «موت ليلى» وتقاطعت حينها مع سرديات وخسارات دينية وأسطوريّة. في العرض الحالي، هناك قصّتان لأجسادٍ انطفأت، ولأخرى موجودة، تحيا على المسرح وخارجه، لكن وجودها لا يفعل شيئاً سوى أنه يحيل إلى غياب الغائبين. كأنما شحرور يدوّن سيرة عائلته على خلفيّة هذه المنطقة الجغرافيّة الممزّقة وحروبها، خصوصاً في تقاطعها مع المصائر الأحاديّة التي تتيحها، والخيوط الهشّة التي تفصل بين هذه المصائر. بلجوئه إلى الموسيقى والحركة والغناء والسرد، يسير العرض عند هذا الخط، ما بين الغياب والحياة، ما بين مصيري حسن وعبّاس.
على إثر قرعة الطبل، تستهلّ الممثّلة السوريّة حلا عمران هذه الرحلة الصوتية الراقصة، بعدما تركت حضوراً مميّزاً في عملي شحرور الأخيرين. تتلو دعاء الغائب: «يا الله يا الله يا الله، يا رحمن يا رحيم، يا رحمن يا رحيم، يا رحمن يا رحيم، يا ذا الجلال والاكرام، به به به به به به به أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في شيء من كتبك أو استأثرت به في علم الغيب عندك...». لا يظلّ معنى الكلمات على حاله بصوت عمران، خصوصاً حينما نسمعها على إيقاع طبل علي الحوت (إيقاع) الذي أعاد توزيع الأغنيات مع شريكه عبد قبيسي (بزق). هذا الدعاء الذي كانت تلجأ إليه فاطمة من أجل عودة ابنها حسن، يتحوّل بصوت عمران إلى تحدٍّ ولوم. تخبرنا قصّة الأم وابنها قبل أن تطلق حنجرتها في الغناء، بتنويعات وتعبيرات صوتية استثنائية.


إنها سيرة موت واختفاء. فاطمة، عمّة علي شحرور، خسرت ابنها من دون أن تخسره. اختفى الشاب العشريني لدى زيارته سوريا، وأُعلِمَت أنه مات هناك فيما لم تتسلّم جثّته. رفضت الأم أن تصدّق موته، وظلّت تبحث عنه في البقاع ودرعا ودير الزور والنبطيّة ومخيّم اليرموك... وماتت بعدها، لا من سرطان الرئة بل من الحزن على غياب ابنها الأكبر حسن. هذا ما يطرحه العرض، بإصراره على تبديل المصائر. لا شيء هناك ليُخفى في المسرح. اختار علي شحرور أن يحيي ذكرى عمّته وبحثها المضني عن ابنها كما لو أنه يصطحبنا إلى داخل البيت. دعا إلى ذلك فريق العمل الذي شاركه مراراً في عروض عدّة، ويضمّ إلى جانب شحرور (رقص، كوريغرافيا وإخراج)، كل من حلا عمران (غناء وأداء صوتي)، وعلي الحوت وعبد قبيسي (موسيقى)، وغيوم تيسون (إضاءة) ويضاف إليهم بطلا العرض ليلى شحرور وابنها عبّاس المولى (رقص).
أمّهات غيّرن مصائر أبنائهن وأخريات تتبعن أثر الجسد المتخفّي. كلاهما خاضا معركة. يفرد العمل كل المساحة لهذه المعارك الخافتة، في إحياء لدور المرأة في التوثيق والبحث وتبديل المصائر، وتحدّي الشعارات الكبرى، من داخل جدران بيوتهن. قصص وتفاصيل وعلاقات حميمية بين الأم وابنها قد لا تجد مطرحاً في السرديات العامّة، إلا أنها تتحوّل إلى قصص أساسية نسمعها في ذكريات ترويها ليلى، قبل أن تجسّدها أداء مع عباس.
مقابل الغياب المدوّي لحسن وأمّه فاطمة، يحضر جسد ليلى شحرور برفقة ابنها عباس. الشاب ذو الثمانية عشر عاماً هو بطل العمل. يدعوه شحرور، فيرقص قبله. يحرّك يديه وجسده طرباً وسلطنة. بهذه الحركات يمهّد لعباس الطريق إلى الخشبة، حيث سيبقى مع أمّه ليلى. خيار إخراجي يتكرّر مراراً، خصوصاً عندما يلتحق شحرور الراقص بالفرقة الموسيقية في خلفية المسرح، متخلّياً عن دوره رغم المشاهد التي يشارك فيه. إذ تعزّز الإضاءة من هذا الانقسام ما بين الخلفية، ومساحة الرقص، جاعلة من أعضاء الفرقة خيالات. مع أمّه ليلى، يعيد عباس تمثيل مصير فاطمة وابنها حسن، ويقدّمان مشهديّاً ما كان يمكن أن يكون عليه مصيرهما لو أن أمّه استسلمت لالتحاقه بالقتال في سوريا.
كل شيء مكشوف على المسرح، شفافية تطبع الإخراج والخيار الكوريغرافي على السواء

لم يكن الاستسلام خيار ليلى، ولا ابنها عبّاس، الذي يقدّم رقصته التلقائيّة على الخشبة، وفق كوريغرافيا تنزل عند جسده وقدراته، من دون أن تسقط عليه. هنا تكمن قوّة الأداء التي لا يعود معها التمييز ممكناً ما بين التصميم، وبين الحركة الأولى لعباس. كل شيء مكشوف على المسرح، شفافية تطبع الإخراج (تنقلات الممثلين) والخيار الكوريغرافي على السواء. نتتبع حركة عباس، وهي تخرج من جمودها. الرقص الذي يتأخّر بالوصول يحيل إلى تيبّس الجسد المذكور، بكل ما يحمله من ثقل وصلابة. يتغيّر موقعه على وقع أغنيات تؤديها حلا عمران، بصوت يختلط أحياناً مع صوتي علي الحوت وعبد قبيسي وموسيقاهما التي تقود نقلات العرض ومشاهده الأساسيّة. فقد رسا الخيار الصوتي على أغنيات وتهويدات ولطميات من تراث المنطقة الموسيقي مثل: «يمه ذكريني»، و«ربيتك صغيرون حسن»، و«زرعتك وردة بعيوني»، والتهويدة السومرية الأولى «تعال يا نوم» تطلب فيها الأم النوم الهانئ لأطفالها.
لا يظلّ الجسد على حاله. يتبدّل مع مناخات العرض وتراوحها بين مصيرين، وبين نكسات فرديّة وأفراح صغيرة تتحوّل إلى عرس صاخب. يطلق عباس حركة مؤثّرة آتية من حركات الأفراح والمناسبات الشعبية، تتمثّل بهزّ الأكتاف والدوران، وهزّ الخصر والتلويح بالأيدي في حركة تطلق العنان للجسد من دون أن تتنازل عن ملامحه الذكورية. يبلغ المشهد لحظات عاطفيّة وحميميّة مكثّفة، خصوصاً حين تلتحق ليلى بعرس عباس. في هذه اللحظة، لا يعود العرض مجرّد عرض بالضرورة، بل يختصر مصير عباس نفسه الذي يحتفي ببقاء جسده حياً. مع ذلك لا يخرج العرض من فجيعة فاطمة الأولى، التي لا يغيب طيفها أبداً أكان من خلال استعادة المنامات وضربات الطبل، أم الشجن والتسجيلات الصوتية.

* «كما روتها أمي» لعلي شحرور: 18:00 مساء اليوم ويستمرّ حتى التاسع من أيّار (مايو). «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/753010



عن الخيار الكوريغرافي ومسارح العاصمة المقفرة
ليست المرّة الأولى التي يعمل فيها علي شحرور مع راقصين غير محترفين. خيار اتّخذه مع عرضه الأوّل «فاطمة» الذي أدّته رانيا الرافعي وأمامة حميدو. ثم جاءت ليلى شحرور، الندّابة الخمسينيّة التي شاركت صوتاً ورقصاً بعرض «موت ليلى». عمل أيضاً مع الممثلة السورية حلا عمران في «عساه يحيا ويشمّ العبق»، و«ليل» (2019) الذي شاركت فيه رقصاً أيضاً المغنية المصريّة آية متولّي. هذه المرّة وقع الاختيار على عبّاس المولى. يعتلي الشاب الخشبة للمرّة الأولى بأداء وحضور لافتين. يخبرنا شحرور عن الرحلة الطويلة وتحدياتها في العمل معه. جزء من هذا التحدّي تمثّل في ألا يفرض عليه حركة تفوق قدرة جسده. وقد حافظ «كما روتها أمّي» بشفافية على سيرورة هذه الرحلة، خصوصاً حين يظهر ثقل الجسد وتعبيراته التلقائية. إلى جانب الهمّ الكوريغرافي، اشتمل التحضير للعمل، على إقناع الشاب الذي كان يعتزم الالتحاق بصفوف المقاتلين بسوريا، بالرقص. من هنا يشكّل العرض نفسه مصيراً جديداً لعباس ولجسده، واحتفالاً بهذا المصير في الوقت نفسه. علماً أنه كان من المفترض لـ «كما روتها أمّي» أن يُعرض العام الماضي، إلا أنه تأجّل بسبب انتشار وباء كورونا. وسيُفتتح الليلة في وقت تشهد فيه مسارح بيروت نكسة حقيقية، أمام كلّ ما عاشته وتعيشه البلاد حالياً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا