تدهورت العلاقات المضطربة دائماً بين المملكة المتحدة وروسيا في عام 2016 إثر محاولة اغتيال مزعومة لمنشقّ روسي على الأراضي البريطانيّة. بدا واضحاً حينها أن الغرب الذي طحنته الأزمة الماليّة العالميّة (2008 وما بعدها) يصوّب ـــ عبر استعادة أجواء الحرب الباردة هذه وسياسات العداء السافر تجاه موسكو ــ على وقف صعود روسيا الجديدة، إضافة الى محاولته حرف الأنظار عن أزمته الذاتيّة.المخرج البريطاني دومينيك كوك التقط تلك العوامل حين قرّر العمل على إنتاج فيلم دراما جاسوسيّة سينمائيّ ينحو في هذا الاتجاه، فاستلّ لذلك صفحةً من ملفات الحرب الباردة عمرها ستون عاماً، وهي قصة غريفيل وين (توفي عام 1990) المهندس وربّ العائلة، الذي يعمل مندوب مبيعات متواضعاً يسافر إلى شرقي أوروبا لبيع مستلزمات المصانع وقطع الغيار، فيستقطبه جهد استخباراتي أميركي بريطاني مشترك للعمل «بغلاً»، وفق تسمية أدب الجاسوسيّة لمن ينقل الرسائل وهو غافل عن كنهها. يستفيد وين من غطاء مزاولته أنشطة الأعمال التجاريّة للقيام برحلات متكررة بين لندن وموسكو، ما يتيح له حمل وثائق سريّة يسربها العميل أوليغ بينكوفسكي، ضابط سوفياتي سابق انتقل للعمل في منصب مهم في هيئة التبادل التجاري السوفياتية المكلّفة إدارة المبادلات مع دول العالم، وتطوّع لخدمة الغرب ضدّ نظام بلاده. وقد نقل وين بالفعل إلى مشغّليه آلاف الصور عن الوثائق السوفياتيّة السريّة قبل أن ينكشف أمر التسريب، فيُعتقل بينكوفسكي، ويُعدم ويُدفن في قبر غير معلّم، فيما أُلقي بشريكه وين في السجن لعامين قبل أن يُفرج عنه في إطار تبادل للجواسيس المعتقلين بين لندن وموسكو. وبحسب المصادر الغربيّة، حصراً، فإنّ الوثائق المسرّبة تضمّنت معلومات كانت حاسمة للجانب الأميركي خلال أزمة الصواريخ الكوبيّة (1962)، لكنّ ذلك مشكوك فيه لأسباب كثيرة.
كُلّف كوك مواطنه توم أوكونور (كاتب سيناريو «الحارس الشخصي للقاتل المأجور» – 2017) بكتابة نص الفيلم الذي تقرر بدايةً تسميته «آيرونبارك» (الاسم الكودي للعميل السوفياتيّ) قبل تغييره على يد شركات التوزيع الأميركيّة لاحقاً إلى «حامل الرسائل» The Courier. وقد صُوّر الفيلم (111 دقيقة) في لندن خلال الرّبع الأخير من عام 2018، وعُرض للمرة الأولى في «مهرجان صندانس السينمائي» (2020)، ليُؤجّل عرضه العموميّ مرّات عدة بسبب وباء كوفيد ــ 19 لغاية هذا العام. إذ طُرح في آذار (مارس) الماضي في عدد محدود من الصالات الأميركية ثم في بريطانيا.
رسائل تحريضيّة وتقسيمات ثنائيّة الأبعاد للعالم


في الحقيقة، إنّ قصّة وين – بغضّ النّظر عن مضمونها السياسيّ المحض – تستحق السّرد لما قد تحمله إمكانات اللعب اللانهائيّة على الانشطارات السايكولوجية لإنسان هامشيّ يجد نفسه في قلب الحدث الاستخباراتيّ مدفوعاً من قبل أجهزة لا تتورّع عن الإجرام، وفي مواجهة متجدّدة لا ترحم مع الموت، والاحتمالات اللانهائيّة للتأثير على حياة العائلة. هذه الانفعالات كانت – ربّما مع قليل من التأمّل في الكلفة الفرديّة الفادحة للترفّع عن الامتيازات الشخصيّة من أجل خدمة مصلحة عامة – تكفي لتقيم أود «حامل الرسائل». لكن كاتب السيناريو اختار إضافة عناصر مبالغة إلى القصّة الأصليّة بهدف ترفيع «البغل» البريطانيّ إلى مرتبة البطل المقدام، والخائن السوفياتيّ إلى مكانة منقذ البشريّة من الزوال وتشويه شخصيّة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، سعياً منه إلى رفع درجة التباين اللوني بين معسكرَي الخير الأبيض (الغربيّ) والشر الأسود (الشرقيّ). لكن بسبب تلك العناصر المضافة تحديداً، أسقطت كل إمكانات الحكاية في مستنقع الكليشيهات المبتذلة، فبدا المنتج النهائيّ كأنّه شريط مرمّم من أرشيف سينما أيّام السذاجة الإيديولوجيّة. ولولا قدرة كومبرباتش الاستثنائيّة على لعب دور شخصيّة غير استثنائيّة كما والحضور الممتاز للممثل الجورجي ميراب نينيدزي (في دور الضابط الخائن)، واحتراف جيسي باكلي (في دور شيلا زوجة وين)، لأصبح الفيلم مجرّد نسخة رديئة من فيلم «جسر الجواسيس» (2015) لسبيلبيرغ. علماً بأن الكليشيهات ليست بالضرورة سيئة بالمطلق للعمل السينمائي، لكنّ اكتظاظها في «حامل الرسائل»، وتناقضها مع عناصر تفرّد حكاية وين، قضيا على أيّ إضافة إيجابيّة كان يمكن أن تأتي بها، فتحوّلت إلى عبء ناءٍ معه الفيلم من الوهن: مواطن ساذج يُقدَّم بطلاً، خائنٌ أنانيّ يُقدَّم رمزاً للسلام العالمي، فريق استخبارات من عتاة القتلة المحترفين يُقدَّم كحسناء شقراء شجاعة قلبها عامر بالمشاعر الإنسانيّة، زعيم فرض على أميركا في النهاية سحب صواريخها النووية من تركيا وإيطاليا والتخلي عن محاولات غزو كوبا مقابل سحب الصواريخ السوفياتيّة من كوبا، يُقدَّم كمهرّج عصبي. التهديد النووي العالمي يُقدَّم كجريمة سوفياتيّة وهكذا.
إيقاع «حامل الرسائل» الزمنيّ يقسمه إلى جزءين متفاوتين. ساعة بطيئة أولى حول مرحلة التجنيد ومن ثم التعارف بين وين وبينكوفسكي، تكاد تولّد الملل قرابة منتصف الفيلم لتعود الأحداث فتتسارع في الساعة الثانية وتتعمّق العلاقة الإنسانيّة بين الرجلين، فيما تتصدّع علاقة وين بشيلا بسبب شكوكها في رحلات زوجها المتكررة إلى موسكو وتحولات سلوكه معها، وتالياً انكشاف أمر بينكوفسكي ومحاولة تهريبه الفاشلة إلى الولايات المتحدة عبر فنلندا. لكّن هذه الإثارة ما يلبث الملل أن يعود ويكسر إيقاعها عند تقديم مشاهد معاناة وين الاستعراضيّة في السجن السوفياتيّ، بطريقة مسطّحة لا تضيف إلى الدراما شيئاً، باستثناء المقطع المفتعل للقاء العابر (والمكثّف) بين وين وبينكوفسكي في السجن. تركيز الشريط المضاعف على متابعة وين في مختلف المراحل واللحظات، أضاع فرصةً كانت واعدة للإفادة من إمكانات بينكوفسكي (الشخصيّة الحقيقية كما الممثل) الذي اكتفى «حامل الرسائل» بالتعامل معه كشخصيّة ثانوية مساندة للبطل (البريطانيّ) ومنصّة يصعد عليها كومبرباتش لاستعراض مهاراته في التعبير بوجهه (ومؤخرته أحياناً).
بعيداً عن الشخصيّات، نجحت أدوات السينوغرافيا في خلق فضاء مكانيّ / زمانيّ رومانسيّ عن فترة الستينيات من القرن الماضي تتطور داخله الأحداث، وفيما لو استثنينا ألوان التصوير الثقيلة بمبالغة زائدة، فإن قطع الأثاث والأزياء والسيارات والطائرات والمباني والكاميرات (الصغيرة المستخدمة في تصوير الوثائق) - سواء تلك المفترض أنّها في موسكو أو التي في لندن – تقاطعت على نقل المشاهد إلى اللحظة الزمنيّة المستهدفة بسلاسة ملحوظة.
سياسيّاً، إن «حامل الرسائل» بحد ذاته ليس مهماً أو ذكيّاً، ورسائله التحريضيّة (ضدّ الآخر الروسيّ خلاصة الشيطان)، وتقسيماته الثنائيّة الأبعاد للعالم، لا تساعده على تقديم مجادلة مقنعة للأجيال الجديدة، لكنّه يكشف مجدداً تلك التوجهات الاستقطابيّة العمياء التي تستدعيها النخب الحاكمة في الغرب كلّما اشتدت عليها أزمة جديدة من أزمات النظام الرأسمالي وتعكسها على هيئة منتجات ثقافيّة من الكتب إلى الصحافة ومن التبادل الفنيّ إلى السينما، مروراً بفقاعات صدى مواقع التواصل الاجتماعي لتكمل حملات الشيطنة السياسيّة والاستفزازات العسكريّة. بالأمس ضدّ روسيا، واليوم الصين وغداً إيران. توجهات لا تعني عند نهاية الرّبع الأول من القرن الحادي والعشرين سوى أن العقليّات السايكوباث التي كانت خلف القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي بدون مبرر عسكريّ، والتدمير العبثيّ لفيتنام والعراق وليبيا وسوريا، والتآمر دوريّاً على كوبا وشعوب الجنوب هي ذاتها العقليّات التي تمسك بمقاليد السّلطة في أنظمة الغرب اليوم، فكأنّ شيئاً لم يتغيّر منذ أيّام وين بينكوفسكي، اللهم إلا تكنولوجيا التجسّس وتقنيات القتل الأشدّ تعقيداً بما لا يقاس. وهذه ليست بالأخبار المُطَمْئِنَة أبداً على مستقبل العالم مهما قال لكم «حامل الرسائل».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا