حتماً، ثمّة من لم يستمع يوماً إلى موشّح بصوت المنشد الحلبي حسن حفّار. كثيرون لم يسمعوا بالرجل. لكنّ آخرين ــ وهم كثر أيضاً ــ يعرفون ذلك الصوت الذي يمكن أن يوصف في منتهى الثقة بالأسطوري. ولا يمكن في حال من الأحوال استعراض العلامات الفارقة في الطرب الحلبي العريق من دون أن يوضع الشيخ حسن (كما يُحب أن يُدعى) جنباً إلى جنب مع الراحل صبري مدلّل (1918 ــ 2006)، والفنان صباح فخري، وغيرهما كثيرين.
وستكون المفاضلة بينهم أمراً شبه مستحيل. حفلاته في باريس، والمغرب، تشهد له. افتتان الملحن التونسي الكبير صالح المهدي بصوته يشهد. قلوب كثير من السوريين تشهد. هو الذي اعتاد محبّوه أن يسموه «حفّار القلوب». عندما وصل سعير الحرب إلى حلب، لم يغادرها. في العام الماضي سرت شائعة كبيرة حول استشهاده إثر إصابته برصاص قناص، قبل أن يتضح ــ لحسن الحظ ــ أنه بخير.



في الأيام الماضية، تناقل محبو حفّار حادثةً وقعت أخيراً مع أيقونة الموشحات. يمتلك الرجل بيتاً نزح عنه في حلب القديمة، يُطل بيته على قلعة حلب. يُمكننا القول إن قلعة كانت تسكنُ قرب قلعة. قرّر الذهاب للاطمئنان على البيت في المنطقة التي يسيطر عليها المسلّحون. حاول مسلحان منعه من دخول المبنى، فأصرّ. أمام إلحاحه، طلبا منه الانتظار ريثما يستأذنان «الأمير». صدرت الموافقة «الأميرية الكريمة». صعد حفّار إلى بيته، فوجدهُ محترقاً بالكامل. انتقل إلى بيت آخر يملكه في المبنى ذاته، ووجده قد لقي المصيرَ نفسه. لا يُمكن التنبؤ بما أحسّه الشيخ السبعيني (مواليد 1943). لكنّ ناقلي الحكاية، يُخبرون بأنه حين نزل إلى الشارع، وجد المسلّحَين في انتظاره. قال أحدهما «الأمير بدُّو يشوفك». ذهب حفّار معهما. دخلا به إلى بيت محاط بحراسة تليق بـ «الأمير». كان الأخير جالساً وسط «حاشيته»، والحلّاقُ يضع لمساته التزيينية. أغلب الظن أنه كان يُشذب له لحيته. اللحى تيجان الأمراء هناك. ووفقاً للرواة، سأل «الأمير»: أنت حسن حفّار؟ أجاب الرجل: نعم. - المنشد المشهور؟. - نعم. عندها، وكما يتصرّف «الأمراء» قال له: أنشد أمامي بيتين. فما كان من حفّار إلا أن أدار ظهره، ومضى صارخاً «احترقو البيتين».
احترق البيتان إذاً أيها المنشد الكبير. ليس البيتين فحسب، احترقت آلاف البيوت. احترقت أسواق حلب التاريخية أيضاً، واحترقت معها آلاف القلوب، يا «حفّار القلوب». وتهدّمت مئذنة الجامع الأموي الكبير في حلب. تلك المئذنة التي طالما رفعت أذان العصر عبرها، منادياً «الله أكبر... الله أكبر» لتخرج من حنجرتك الذهبية فيّاضةً بعذوبة يتقنها فنّان مثلُك يؤذن للعصر. وثمة فرق كبير بينها، وبين «الله أكبر» التي تُرتكبُ باسمها بعضُ جرائم العصر. احترق البيتان؟ لا بأس يا «أبو أديب» لا بأس. لنخترع جانباً مشرقاً للحكاية، وننظر إليه. فقد كانت مناسبةً لنتأكد أنّك ما زلت بخير. ولُنعزِّ أنفسنا بالقول: بالنارِ يُختبر الذهب. ولننتظر معاً أيها الذهب العتيق، قيامةً سورية لا بدّ لها أن تكون.