فيلم أكشن بريطاني آخر حول فرقة القوات الخاصة للقتلة السايكوباثيين الشهيرة «ساس» التي يتم تسويقها لعموم البريطانيين على أنها حارس لهم ضد تآمر قوى الشرّ، إضافة الى كونها ذراع حكومة جلالة الملكة للانتقام من أعداء التاج البريطاني. النتيجة سيئة حتى بمقاييس أفلام الأكشن الساذجة، وأقرب إلى نسخة شاحبة من منتجات جيمس بوند. لكنها من منظار آخر مدخل مهم للبحث في الحاجات السيكولوجية التي ما زال يخدمها فضاء «ساس» الفنّي هذا، في ما يتعلّق بالهويّة البريطانيّة القائمة على وهم التفوّق، والعنف الذكوريّ كأفيون شعوب للذكور البريطانيين المسحوقين بوحشيّة الرأسماليّة المعاصرة
تسيطر على الـ123 دقيقة التي يستغرقها «ساس: مذكرة حمراء» (2021) SAS: Red Notice الاستعراضات البهلوانيّة المسطحة والكثير من تبادل إطلاق النار، ودوي الانفجارات وطبعاً العديد من الأبطال المفتولي العضلات. لكن في موازاة الأكشن هذا، يحاول العمل المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للجندي السابق آندي ماكناب، خلق توترات عاطفيّة وإنسانيّة، وطرح قضايا سياسيّة ومسائل فساد مؤسس، ورسم حدود في قلب المنطقة الرماديّة لفرز الأخيار عن الأشرار. لكن المحاولة شيء، والنجاح بها شيء آخر.
كأن المخرج ماغنوس ماريتنز قد استحضر كل هراء يمكن استخلاصه من نصوص ماكناب وصاغها في عمل بصري غير مقنع في حبكته، ومفتقد للروح في تفاصيله الفنيّة، وتائه بين مرجعيّات أفلام الأكشن الكلاسيكيّة («جيمس بوند» و«داي هارد» و«مهمّة مستحيلة»). مع العلم بأن سام هيوغان الذي يلعب الشخصيّة الرئيسة في الفيلم يرغب بشدّة في لعب دور العميل 007 (جيمس بوند) وهو بالفعل أحد المرشحين لذلك حالياً. عدا إيقاعه الزمنيّ المتثاقل (لا بدّ من أنك ستنظر إلى ساعتك عدّة مرات وأنت تتابع)، لم يمنح «مذكرة حمراء» الممثلين أي فرصة حقيقيّة لتقديم شخصيّات تتجاوز حدود التسطيح الثنائيّ الأبعاد.
تحتل متابعة بعض أعمال القتل المأجور التي تنفذها في جورجيا (السوفياتيّة السابقة) فرقة من المقاولين العسكريين تُعرف بـ «البجعات السود» وتقودها عائلة لويس (تشمل الأب وليام (توم ويلكنسون)، وابنه أوليفر (أوين يومان) وابنته غريس (روبي روز)) الدقائق العشر الأولى من الفيلم. يظهر بعدها توم باكنغهام الثالث (سام هيوغان) بطلنا «السوبرمان» الذي أُسقطت عليه حكماً كل الصفات والقدرات اللازمة للعب دور المنقذ، مع شيء من سحر شيطاني غامض. باكنغهام الأرستقراطي والجندي البارز في القوات الخاصة البريطانيّة (ساس أو Special Air Service) على وشك اللجوء إلى الزواج، كوسيلة لتهدئة روعه وللترفيه عن نفسه بعد تصفية بعض الأشرار. يشتري تذكرتَي سفر إلى باريس ويحضر معه خاتماً لوالدته، كان قد استحصل عليه أيّام الإمبراطوريّة البريطانيّة عبر بتر أصبع مهراجا هنديّ كان المسكين يضعه قبل أن ينفد حظّه الطبقيّ ويغضب عليه الأسياد. يذهب باكنغهام إلى المستشفى حيث تعمل صوفي هارت (هنّا جون-كامين)، صديقته الطبيبة التي لديها تحفظات محبطة حول شخصيته المتبلّدة المشاعر ليقنعها بالذهاب معه في رحلة خاطفة إلى عاصمة الأنوار على البرّ الأوروبيّ. ولكن بالطبع يجب أن يؤدي قبلها مهمّة عاجلة لتنفيذ مذكرات حمراء صدرت للقبض على قادة «البجعات السود» بعد تسرّب شريط فيديو هاتفيّ يفضح أنشطتهم الإجراميّة ضد المواطنين في جورجيا. وعلى الرّغم من أن الحكومة البريطانيّة هي من كلّف «البجعات السود» بتلك المهمة القذرة، إلا أنها تلجأ - بهدف التغطية - إلى تصفية عائلة لويس. حينها تجمع الابنة غريس فريقاً للانتقام، وتستولي على قطار «اليوروستار» المتجه من لندن إلى باريس في منتصف نفق القناة تحت بحر المانش، وتطالب بفدية ضخمة وبممرّ آمن في مقابل إطلاق ركاب القطار، ووعد ضمني بعدم الكشف عن تورط بريطانيا الرسميّة في ما حدث بجورجيا. ولكن مصادفة وجود بكانغهام على القطار نفسه مع صديقته تعقّد الأمور، خاصة حين يقرر إيقاف المؤامرة وإنقاذ الركاب والمحبوبة.
يبدو أن ثيمة الفيلم وفق ماريتنز هي أن هؤلاء القتلة السايكوباث الذين ينتظمون في سلك قوّة «ساس» المكلّفةـــ نظريّاً ـــ بمحاربة الإرهاب أو حتى أولئك الذين يختارون العمل في المقاولات العسكريّة ويشكلون معاً أقل من 1 في المئة من مجموع السكان، قد تقسو قلوبهم ويعجزون عن إبداء عواطفهم، لكنهم يقومون في النهاية بمهمّة مقدّسة لحماية الأمّة، وينبغي لكل منّا – أي نحن بقيّة البريطانيين – احتضانهم وتقبلهم كما هم، وتفهّم طريقتهم الغرائبيّة في القتل والحبّ معاً. هذا الخط المركزي في الفيلم يسمح بطرح التناظر بين توم وغريس (البرود في ممارسة القتل)، كما التناقض بين توم وصوفي (هو يقتل البشر وهي تنقذهم). لكن كل شيء في «تذكرة حمراء» يبقى خاضعاً بشكل كليّ لمنصّة الأكشن، وانتصارات البطل الفرد (التي رغم كل شيء ما زال لها جمهور كبير) وتغذية أسطورة «ساس» في المخيال الشعبي للبريطانيين.
تشكّل «ساس» واحدة من أهم أدوات العدّة الإيديولوجيّة للنظام الملكيّ


ولكن إلى مَن يتوجه فيلم من هذه النوعيّة التي افترضنا أنها مضت إلى غير رجعة؟ في الحقيقة تمثّل فرقة القوات الخاصّة المحمولة (ساس أو Special Air Service) أسطورة قوميّة وظاهرة ثقافيّة مهمّة في السّياق البريطانيّ على مستوى السايكولوجيا الجماعيّة للشعب. منذ إطلاقها في أجواء الحرب العالميّة الثانيّة، تحوّلت - بغضّ النظر عن مساهماتها الفعليّة المتخمة بقصص فشل أكثر من النجاح – إلى واحدة من أهم أدوات العدّة الإيديولوجيّة للنظام الملكيّ، ولا سيّما في عهد رئيسة الوزراء اليمينيّة المتطرفة مارغريت تاتشر حينما أعيد تقديم «ساس» بأبعد من مجرّد قوّة توكل إليها مهمات سريّة خاصة في الحروب، ولتصفية أعمال المقاومة ضد الأنظمة الرجعيّة الصديقة لبريطانيا (اليونان، الملايو، برونيو، الجبل الأخضر، اليمن، ظفار، كوريا، كمبوديا (تدريب ودعم الخمير الحمر)، كولومبيا (خدمة للأميركي)، وإيرلندا الشماليّة وغيرها)، لتمثّل استئناف بريطانيا لهيلمانها، الذي تعرّض لهزّة كبرى خلال أزمة السويس (1956)، واستعادة قدرتها الصاعقة على الفعل «العسكري» الاستعراضيّ (اقتحام السفارة الإيرانيّة في لندن (1980) وحرب الفوكلاند والحرب على العراق (1991) ثم العراق مجدداً (2003) ولاحقاً أفغانستان وسوريا وليبيا ناهيك بالدّور الداخليّ كقوّة لمكافحة الإرهاب). في إطار هذا الدور الميثولوجي الأسطوريّ لـ «ساس»، أُنتج كمّ هائل من الكتب والمذكّرات والروايات والأفلام والمسلسلات التي لقيت ــ ويبدو بعد «مذكرة حمراء» ما زالت تلقى ــــ شعبيّة كبيرة بين البريطانيين.
وتهدف هذه المواد جميعها إلى أن تروي عطش الشبان البريطانيين المراهقين إلى هويّة قوميّة ذكوريّة فاعلة تجمع بينهم وتمنحهم القدرة المتوهمة على عيش العنف المنفلت، واستعادة الثّقة والدّور والمكانة في وجه التوجهات النسويّة والمثليّة والديمقراطيّة المشتركة مع الملوّنين والمهاجرين.
في هذه المواد يرتدي الشبان ثياباً عسكريّة، ويعيشون التجربة الرّفاقيّة لأشخاص يشاركونهم هويتهم ومشاعرهم، ويستعرضون حضورهم المستفزّ للضعفاء رجالاً ونساء ـ وما بينهما ــ ببنادقهم الضخمة، ويحصلون على ثناء الأمة عندما يمارسون أبشع أشكال القتل من دون أن يهتز لهم جفن، وهم لا يعانون من البطالة أو الفقر أو العمل في وظائف مؤقتة أو السجن الطبقيّ، ويمارسون الحبّ مع الجميلات اللواتي لسن إلا مجرد ترفيه جانبيّ أو سيدات منازل وأمهات لأبنائهم يعودون إليهن في وقت لاحق بعد أداء المهمات.
بالنسبة إلى الشبان البريطانيين، فإن هذه الأعمال تلعب دوراً شبيهاً بمفهوم أفيون الشعوب الماركسيّ الشهير: عزاء وتعويض رجعيّ عن انعدام قدرتهم على تغيير حياتهم وأقدارهم، وتحليق في دنيا الوهم بعيداً عن ثقل التاريخ وحقائق المجتمع وتراجع المكانة.
جمعيّاً، فإن الأعمال المتمحورة حول «ساس» تمنح البريطانيين مادة هويّة شوفينيّة تُرضي غرورهم القومي ونظرتهم الفوقيّة إلى الآخرين التي تشكّلت بداية في عصر الإمبراطوريّة واستديمت خلال السنوات السبعين الماضية بعد الأفول على أيدي الحكومات المتعاقبة عبر الإنتاج الثقافي ــ بأشكاله ــ والتعليم وتواطؤ الإعلام. ولا شكّ في أن هذه المادّة اكتسبت أهميّة إضافيّة اليوم بعد «بريكست» وتخلّي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. لـ «ساس» دور عمليّ مهم عند الدولة البريطانيّة أيضاً، إذ تُمكن السلطات من تنفيذ عمليّات قتل واغتيال وتعذيب وتخريب وانقلابات مموّهة من دون التعارض مع صورتها البراقة المخادعة كدولة ديمقراطيّة ليبراليّة تقوم على حكم القانون وحماية حقوق الإنسان. وهكذا يمكن لمجلس العموم أن يلتقي في جلسة علنيّة تثير إعجاب الجمهور غير المطّلع على حقيقة الأوضاع لما فيها من الجدل المتحضّر بين الحكومة والمعارضة، في الوقت الذي تمارس فيه القوات البريطانيّة الخاصة أعمال القتل والاغتيال والتعذيب والإرهاب وتدريب الميليشيات اليمينّية وتسليحها في 64 موقعاً تتواجد فيها حول العالم (رسميّاً) أو عبر واجهات المقاولين العسكريين، وحتى في شوارع لندن، إن دعت الحاجة.
في «مذكرة حمراء»، يَظهر عناصر فاسدون في الحكومة البريطانيّة (وصولاً إلى رئيس الوزراء نفسه) قد يتخذون قرارات لمصلحة الشركات البريطانيّة، وهناك أعضاء في «ساس» يتعاطفون مع رفاقهم في «البجعات السود»، ويمرّرون لهم المعلومات. لكنّ هؤلاء يُصوّرون في لوحة ماكناب/ مارتينيز الصاخبة كأنهم استثناء، خروج عن النصّ، وتهورّ فردي محض. لكن الأساس والثابت يبقى نحن (يتحدّث قائد القوات الخاصة البريطانيّة) مهما تغيّرت الحكومات وتبدّل السياسيون، ويبقى توم باكينغهام ثابتاً كطود، نموذجاً مألوفاً للشخصيّة البريطانيّة العنيدة – بالفعل السايكوباث - التي تولي واجبها ومهمّتها الأولوية – دائماً القتل – حتى بالنسبة إلى الاهتمامات الشخصيّة والصداقات النّادرة، وقصص الحبّ. لكن شعوب الجنوب قد تعلّمت وبثمن باهظ حكايات «البجعات السود» و«الخوذ البيض» و«القبعات الحمر»، وأيقنت بأن الحقيقة في مكان آخر تماماً، ولذلك لا تجد روايات ماكناب – السايكوباثي من يقرأها هنا، أو حتى من يصدّق الأفلام المستوحاة منها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا