«يا امرأ القيسِإنْ شئتَ قرطاج، لا بُدَّ من شوكها
ولا بُدَّ أن تتعفَّر قبلَ الوصولْ»

المفكر والأكاديمي والناقد اللامع، المناضل الصلب، عاشق عنب الخليل، الشاعر المجدّد الدكتور عزالدين المناصرة، صاحب «الكنعانياذا»، تلك المقاربة الملحمية بين أسطورية الإلياذة لهوميروس، وإلياذة التيه الفلسطيني الذي اعتبر أنّ الرمز ليس ملكاً شخصياً له، فهو موروث عام، فاستُحضر امرؤ القيس وزرقاء اليمامة وكنعان وأبو محجن الثقفي وجالوت وجفرا. بدأها بـ «مذكرات من البحر الميت»، و«قمر جرش كان حزيناً» و«لا أثق بطائر الوقواق» و«بالأخضر كفّنّاه» و«رعويات كنعانية»... إلى البحث. فهو المؤرخ المجدد والإشكالي والمثير للأسئلة وخارق البديهيات، مثل إصداره المهم «فلسطين الكنعانية... قراءة جديدة في تاريخ فلسطين القديم» الذي رأى فيه أنّ «الفينيقيين» هم حرفياً «بنو كنعان» في اللغة اليونانية القديمة. ويصل الى نتائج مذهلة حول أنّ اللغة الكنعانية هي اللغة السامية الأم. أعاد قراءة شخصية «النبي إبراهيم» منتقداً نظرية كمال الصليبي وسيد القمني، وجديده أنّه ولد في «أور سدوم» وعاش في «خل إيل» الاسم القديم لمدينة الخليل.

عزالدين المناصرة: لو اعترف العالم العربي بشرعية إسرائيل، سأظل الهندي الأحمر الأخير، فلن أعترف حتى أموت

المثقف الذي يعتبر أن الشعب الفلسطيني وفلسطين نفسها أكبر منه ومن كل شعراء فلسطين، فلا يجوز شطب الثقافة الفلسطينية وتلخيصها في شخص واحد، بل المثقف الذي يختلف عن أي مثقف، «لو اعترف العالم العربي بشرعية إسرائيل، سأظل الهندي الأحمر الأخير فلن أعترف حتى أموت». لأن المثقف الفلسطيني بالنسبة إليه حالة خاصة في العالم لأنه لا يعيش في وطنه ولا يستطيع التصرف بوصفه فرداً يناطح دولاً. اصطدم مع المؤسسة البيروقراطية والثقافة البائسة والفاسدة والمتهافتة، ولكنه لم يتزحزح يوماً عن دوره كمثقف طليعي، كما ذكر «ولدت معارضاً»، وأضاف: «جاءت الحياة لتثبت لي صحة موقفي، فلا أستطيع بعد 65 عاماً أن أكون جزءاً من السلطة، وبالمناسبة كلما كنت مرناً، وتقترب من السلطة، ابتعدت عنها وتكتشف أكثر شقاءك المعرفي وتبدأ بمراجعة مواقفك وتعاني من العزلة الإيجابية أو المرارة». وذكر ما سمعه من صحافي أجنبي في بيروت حين قال: «مشكلة الفلسطيني على ما يبدو أنه فلسطيني فقط».
قيل عنه: «شاعر عالميٌّ بكل المقاييس» كما وصفته الباحثة الإيرانية مريم السادات ميرقادري، و«لا يقلُّ أهمية عن شعراء فرنسا العظام في النصف الثاني من القرن العشرين» كما وصفه كلود روكيه، مدير «دار سكامبيت» (بوردو) بعد قراءة ديوانه «رذاذ اللغة».
لا أنسى اللقاء الأول الذي جمعنا في «مترو المدينة» في بيروت. مازحته بعنوان مجموعته «لا يفهمني أحد إلا الزيتون»، فقال: «أعرفك، هيّا أحضر لي روايتك «جفرا»، ومقابلها سأهديك أول قصيدة في الأمسية»، وكانت «جفرا» التي غدت ترنيمة عشق فلسطينية، نغنيها في أعراس المخيم، نتداول حكايتها، لعلّها تستعيد ذاكرة الوطن، فرحاً وحباً وتمنيات أن تعود جفرا ... وهكذا كان، فأنشدها وسط خشوع الحضور كإهداء كأننا نسمعها للمرة الأولى:
«جفرا، الوطن المَسْبي
الزهرةُ والطلْقةُ والعاصفة الحمراءْ
جفرا... إنْ لم يعرفْ من لم يعرفْ غابة تُفَّاحٍ
ورفيفُ حمام... وقصائد للفقراءْ
جفرا... من لم يعشق جفرا
فليدفنْ هذا الرأس الأخضر في الرَّمْضاءْ».
وفي اللقاء الأخير قبل أعوام في أمسية شعرية خلال افتتاحية مؤتمر «ثقافة المقاومة الرابع» في «قصر الأونيسكو» (بيروت)، بدعوة من «الملتقى الثقافي الجامعي» و«شبكة المنظمات الأهلية في لبنان» و«الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين»، أنشد للخليل:
«خليلي أنت، يا عنب الخليل الحر، لا تثمر ‏وإن اثمرت، كن سماً على الأعداء، لا تثمر!»
في معلم «مليتا» السياحي المقاوم (إقليم التفاح)، كان مثقفاً ودليلاً ومقاتلاً، حيث تشاركنا في جلسة نقاش تناولت «ثقافة المقاومة» والحرب الناعمة. أدركت كيف أعاد المنفى تشكيله وصناعته وترك بصمة لا تمحى في تاريخ الأدب والثورة، فقد ارتبط اسمه بـ «شعراء المقاومة في المنفى». باح بمرارة الغربة عن منفاه المتكرر من فلسطين إلى مصر، فلبنان وبلغاريا ثم تونس فالجزائر ثم الأردن؛ عن دوره في «الاتحاد العام لطلبة فلسطين»، وفي «مركز الأبحاث الفلسطيني»، وتأريخه للثورة الفلسطينية في لبنان، ودوراته العسكرية وجولاته القتالية التي خاض فيها معارك شرسة: كفرشوبا، المتحف، المطاحن والشياح.
كان يعتبر أنّ المنفى يصلح للزيارة، ولا يصلح للإقامة، حيث لا مكان في العالم يصلح للطمأنينة سوى مسقط الرأس، وكلُّ الطيور تعود إلى أوطانها حتى لو حكمها ديكتاتور، باستثناء الطيور الفلسطينية، لأن الاحتلال «الإسرائيلي» لها بالمرصاد، على الرغم من أنها تقاوم. ويقول إن «المنفى، مكان مؤقت تشعر فيه بأنك معلَّق في الهواء الفاسد». روى مناسبة قصيدته «بالأخضر كفناه» عندما استشهد رفيقه زياد من مدينة إربد في إحدى المعارك البطولية ضد العدو الصهيوني في بيروت. ومن شدة القصف المتواصل على بيروت، لم يستطيعوا أن يدفنوا زياد إلا بعد ثلاثة أيام عندما هدأ القصف. وفي أثناء مراسم الدفن، صودف وجود أمّ فلسطينية «ختيارة» حاضرة لمراسم التشييع. قالت بلهجتها العامية البسيطة: «سبحان الله جرحه لسة أخضر» أي أن جرحه لا يزال ينزف. فكتب:
بالأخضر كفّناه بالأحمر كفّناه/ بالأبيض كفّناه بالأسود كفّناه
لا الريح تحاسبنا إن أخطأنا لا الرمل الأصفر/ لا الموج ينادينا إن خطف النوم أعيننا/ والورد إحمرّ
يا دمَهُ النازف إن كنت عذاباً يومياً/ لا تصفرّ
سمع الموسيقار مارسيل خليفة القصيدة والقصة التي كانت السبب في القصيدة، فلحّنها وغنّاها ونشرها في أرجاء الوطن العربي، وغنّى «بالأخضر كفناه» عام 1984 في ملعب الصفا في بيروت أمام مئة ألف متفرج.
طوبى لك أيها الفدائي... امرؤ القيس الكنعاني... نودعك عائداً إلى الخليل على وقع ترتيل كلماتك:
وحين تدق المسامير في النعش
لا تزعجوا الشعراء
يا ساكناً سقط اللوى
قرب اليمامة بيته...
* كاتب وروائي فلسطيني ـــ مسؤول «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في لبنان

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا