ربما يشكّل Occupied أفضل إنتاجات النرويج التلفزيونيّة على الإطلاق. إذ يطرح المسلسل في إطار بصريّ باذخ ومُبهر قضايا فرديّة ومحليّة وإقليميّة وعالميّة معاصرة تبدأ من القيم الشخصيّة، ولا تنتهي عند حدود أزمة المناخ. كل ذلك ضمن خطّ سردي لا يكفّ عن التدحرج، عبر شخصيّات تكتسب تعقيداً متزايداً مع الوقت، وأداءٍ تمثيلي رائع لثلّة من النّجوم المحليين في أجواء معماريّة وطبيعيّة تخطف الأنفاس. مع ذلك، فإن «احتلال» يعاني من خلل بنيوي فظيع في بنية الحكاية التي كتبها روائي الجريمة النرويجي الأشهر جو نيسبو، إذ يبدو كأنّه عالق في الصراعات الإيديولوجية للحرب الباردة والثنائيّات المسطّحة للروسي السيّئ والأميركي الجيّد... إلى درجة أفسدت علينا الحفل الجميل، واستدعت احتجاجاً رسميّاً من موسكو
يقدّم المسلسل السياسيّ النرويجي «احتلال» (في ثلاثة مواسم متوافرة على نتفليكس) مقاربة دراميّة برّاقة لمسألة التغيّر المناخيّ العالميّ، والتحدي السياسيّ واللوجستيّ الهائل الذي يمثله الانتقال الكامل إلى مصادر طاقة متجدّدة من قبل دول كبرى تقوم بنية اقتصاداتها الحاليّة - ومصالح نخبها القصيرة المدى - على الوقود الأحفوري. العمل المبنيّ على أساس رواية كاتب روايات الجريمة النرويجي المعروف عالميّاً جو نيسبو يضع البلد الاسكندنافيّ الأنيق في مركز ذلك التحدّي كضمير للعالم عندما يحاول رئيس وزراء من حزب منافح عن البيئة استغلال اعتماد جيرانه دول الاتحاد الأوروبي على النفط النرويجيّ من أجل فرض انتقال حاسم نحو بدائل متجدّدة.
مسرح الحكاية يتأسس سريعاً في حلقة افتتاحيّة صاعقة: أجواء مستقبل قريب تبدو قابلة للتصديق، حيث الولايات المتحدة قد حقّقت استقلالاً كليّاً في مجال الطاقة وقررت ترك حلف شمال الأطلسي والانكفاء داخليّاً، وتسبّبت الحروب البينيّة في الشرق الأوسط في تراجع إمدادات النفط وتضاعف أسعاره، فيما تتعرض النرويج لإعصار يدفع بمسألة المناخ إلى أولوية اهتمامات الناخب المحليّ. على خلفيّة تلك التقاطعات الجيو-سياسيّة، تأتي لحظة تاريخيّة فارقة: إذ يُنتخب السياسي الكاريزمي يسبر بيرغ زعيم الحزب الأخضر (يلعب دوره باقتدار هنريك مستاد) بأغلبيّة ساحقة لرئاسة الوزراء، المنصب التنفيذيّ الأهم في مملكة النرويج الدستوريّة. هنا يقرر أن الوقت قد حان لاستغلال اعتماد دول الاتحاد الأوروبيّ على نفط وغاز بلاده من أجل فرض تحوّل حاسم وفوريّ إلى الطاقة النوويّة كبديل نظيف، فيوقف تصدير الوقود الأحفوري، ولا يترك لجيرانه الأوروبيين العطاشى أبداً إلى الطاقة، أي خيار سوى تنفيذ إعادة هيكلة مؤلمة للاقتصاد ونظم العيش. لكن استجابة التكتل الأحفوريّ في أورو-آسيا للخطوة النرويجيّة المزعجة تأتي سريعاً من خلال تنسيق غزو روسيّ مدعوم من الاتحاد الأوروبيّ لضمان عودة تدفّق النفط والغاز النرويجي مجدداً. وبالفعل، تختطف القوات الروسيّة رئيس الوزراء وتجبره ـــ في ظلّ تآمر الجيران الأوروبيين وغياب العدالة الأميركيّة ـــ على قبول احتلال ليّن لبلاده على شكل «شراكة» تضمن في النهاية عودة تدفّق إمدادات الطاقة نحو البرّ الأوروبيّ.
الموسم الأول (10 حلقات) من «احتلال» يرسم مساراً تصاعديّاً للغزو الروسيّ للنرويج، يبدأ بدون عنف كبير ليصل تدريجاً إلى نقطة الغليان عندما تشرع القوات الروسية الخاصة بتبادل إطلاق النار مع الميليشيات النرويجية شبه العسكرية في قلب العاصمة أوسلو. يتعمّق الموسمان الثاني والثالث (8 و6 حلقات على التوالي) في قراءة انعكاسات ذلك الغزو على السياسة والسيكولوجيا الفرديّة والجمعيّة للنرويجيين، حيث يدفعهم الصراع إلى تبني نزعة شوفينيّة يمينيّة، وكراهية الأجانب والفاشية البيئية، فينقلب نشطاء «النرويج الحرة» التي تلعب دور المقاومة المعادية للاحتلال، نحو تنفيذ أعمال إرهابيّة تستهدف النرويجيين المتهمين بمهادنة الغزاة، كما المواطنين الروس المدنيين العاديين الذين يعيشون ويعملون في بلادهم، بمن فيهم من كانوا موجودين قبل الغزو. مع نهاية الموسم الثالث، يتحول ناشطو البيئة النرويجيون إلى الهجوم عبر حرب عصابات إلكترونية تستهدف شبكات الطاقة الكهربائيّة في موسكو. المعركة النهائيّة ربّما لم تُحسم بعد ـــ لا يمكن كسب الحروب كأنها لعبة فيديو بالطبع ـــ ولم تقرر نتفليكس إلى الآن ما إذا كانت ستجدد لـ «احتلال» موسماً رابعاً، أم ستكتفي من الغنيمة بمشهد العاصمة الروسيّة وهي تغرق في الظّلام الدّامس.
يُظهر المسلسل ورثة الاتحاد السوفياتيّ السابق كأنّهم حرّاس النظام الرأسماليّ المتهالك القديم


على أن هذه التّطورات السياسيّة والأمنيّة العاصفة تقرأ في «احتلال» أساساً من خلال تتبع التحولات التي تطرأ على مزاجات مجموعة من الأفراد والتأثيرات العميقة التي تطاول قيمهم – بشكل متفاوت - في مواجهة الحدث التاريخي، كما تقلبات أقدارهم في إطار نموذج العيش المستجد لظلّ الهزيمة القاتم على مجتمع طالما تمّ تصويره كنموذج استثنائيّ خال من العيوب الاجتماعيّة للشعوب المتخلّفة: من رئيس الوزراء – الذي لا نعرف ما إذا كانت السلطة غيّرته، أم أنّها كشفت حقيقته كمتعطّش للنفوذ الشخصي -، إلى أحد أفراد الخدمة السرية (إلدار سكار) وزوجته اللاجئة الأريتيريّة (سالومي أمينتو)، فالقاضي (سيلومي إمنيتو)، ومالكة المطعم (أني دال تورب)، والصحافي اليساريّ (فيغار هويل)، وغيرهم من الشخصيات الرئيسة أو الثانوية التي تدور في فلك حياتهم عشاقاً وأزواجاً وأبناء.
في خلفيّة الصراع الجيو-سياسي والانشطارات السايكولوجيّة، يطرح «احتلال» تجربة مشاهدة غير مسبوقة على مستوى المضمون والشكل كليهما. في المضمون، نحن كمشاهدين لسنا في وارد متابعة مجرّد عمل درامي آخر لملء الوقت الضائع من حيواتنا بقدر ما ندفع دفعاً للانخراط في تحدي الانتقال من فضاء الثرثرة البرجوازيّة الفارغة بشأن الأزمة المتصاعدة للمناخ في كوكبنا المشترك إلى حيّز الخيارات الفرديّة التي يمكن أن تفرض على أيّ منا – في الغرب على الأقلّ - تجاه تلك الأزمة: هل يتطلّب ذلك دعم سياسيين يدّعون تبني أجندات بيئيّة؟ هل يبرر ذلك حمل السلاح ضد البشر الآخرين المتمسكين بالأوضاع القائمة؟ وهل يتطلّب الأمر تبرير صعود فاشيّة بيئيّة وتفهّم الأعمال الإرهابية في مواجهة كارثة بحجم الكوكب؟ وهل سنقبل كأفراد بالكاد نسدد فواتيرنا الشهريّة بتحمّل الكلفة الماليّة الباهظة للانتقال السريع نحو اقتصاد يعمل بطاقة نظيفة؟ لكنّ صاحب العمل الروائيّ الأصلي يبدو كأنّه لم يبرأ أبداً من البلاهة الإيديولوجيّة التي رافقت مرحلة الحرب الباردة، والثنائيّات المسطحة للأبيض/ أسود، أو الروسيّ المتوحّش والأميركيّ الطيّب. هنا يبدو ورثة الاتحاد السوفياتيّ السابق كأنّهم حرّاس النظام الرأسماليّ المتهالك القديم. وعلاوة على تمتعهم بفرض الأجندات السياسيّة على الجيران الضعفاء بمحض القوّة، هم أيضاً شرهون وفاسدون لا يتورّعون عن القتل والابتزاز لتحقيق أهدافهم الشخصيّة المتأتية من مزيج الطموح المرضيّ والخوف الساكن من بطش من هم في موقع القرار. أما الأميركي، فبعيد هناك في العالم الجديد، لا يفسد للبيئة قضيّة، وليس معنيّاً بصراعات العالم الإقليميّة المرتبطة بالطاقة، يجلس في معتزله منارة للعدالة والاتّزان، وأملاً أخيراً لكل من ضاقت بهم سبل العالم (القديم) القاسي. يقع جو نيسبو كذلك في فخّ التحليل السياسيّ المحض – وعلى مستوى إقليمي ساذج - لحقيقة أزمة المناخ العالمي، من دون أن يجرؤ ولو بالتلميح إلى الخلل البنيوي المحض المُسمى الرأسماليّة بمركزها الأميركي، التي هي أساس كل أوجاع الكوكب وأهله معاً.
لكنّ سقوط نيسبو على صعيد المحتوى الإيديولوجي، لا يقلل مطلقاً من النجاح الساطع لـ «احتلال» على مستوى الشكل الفني (الكلفة تجاوزت 90 مليون دولار أميركيّ وتُعدّ الأعلى في تاريخ التلفزيون النرويجي). لدينا هنا قصة متسارعة، ممثلون بارعون، أجواء حضريّة ومعماريّة وبيئيّة صاعقة الجمال، كواليس سياسَة وعمليّات أمنيّة ومآزق نفسيّة واجتماعيّة وعشق شهواني وخيانات فادحة، كاميرا تتنقّل بذكاء وتلتقط المشاعر والأحداث بانسيابية إعجازيّة، على خلفيّة موسيقى هائلة تليق بكثافة المشهد البصري للبيئة النّرويجيّة (أغنية الشّارة بالذات تحفة فنيّة تامّة).
لدى إطلاق موسمه الأوّل، أثار المسلسل غضب موسكو، واحتجّ سفيرها لدى أوسلو بمرارة على إثارة مشاعر العداء الشوفيني ضد الجار الروسيّ التي يحملها المسلسل، وقد بدت مستلّة من أسوأ ملفات الشحن الإيديولوجي الساذج للحرب الباردة. ذكّرهم بفضل الجيش الأحمر في إنقاذ القارّة برمتها من الوحش النازي، الذي كان اجتاح النرويج في مرحلة ما خلال الحرب العالميّة الثانية، وبأن روسيا كانت دائماً ضحيّة للموت القادم من الغرب: من نابليون إلى ترامب وبالتأكيد مروراً بهتلر.
وفي الحقيقة، لا يخدم هذا التحريض المباشر في عمل ثقافيّ رئيسيّ بحجم هذا المسلسل (شاهده معظم النرويجيين) ضد جارهم العملاق وقدرهم الجغرافيّ الأبدي سوى أجندات أميركيّة، ويدعم حصراً التوجّهات العسكرتاريّة الفاشيّة واليمينيّة للحكومات على حساب السياسات العقلانيّة. وفي النهاية يضحّي بالمسألة البيئيّة التي يزعم الدّفاع عنها على مذبح أرباب السياسة. لقد أفسد علينا نيسبو الحفل الجميل الذي أقامه على شرف الاحتلال.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا