يمتلك المايسترو ميشال جريديني، ما لا يمتلكه الكثيرون. يمتلك الرجل إتقان تقنية الحوار مع النفس. يعتبر أن الحوار هو أحد أنواع الاتصال بالبشر، متسائلاً حول الطبائع الخافية بتعليم الموسيقى للآخر، وما يتأسّس عليه ويبرر العمل من خلاله. اختار التعليم لأنه وجد فيه عالمه الإنساني، بعد تجربة طويلة في قيادة الأوركسترا الموسيقية، ما لم يعتبره راهنه الوحيد بعدما قاد أوركسترا الراحلة صباح، وأوركسترات أخرى بأمانة مزدوجة. أمانة القيادة وأمانة عدم الإفصاح عما جرى في تلك الفترة بدون إنكار وغوص في المجاهل، لأنه لا يزال يقدر على التمييز بين النفاق والعزيمة. لقد باتت جزءاً من ثقافة الماضي لدى هذا الموسيقي، من يمتلك فهماً مطلقاً لآلة الغيتار، باعتبارها آلة ملء الكمال بالكمال بالعالم الموسيقي. آلة تحرضه على نفسه كما يحرضها على نفسه بالهيام بها، ليكون ويكونا على ما ينبغي النصف والنصف الآخر، لأنهما نصفان لا يماطلان بإعلان الأمر، لأنهما يجدانه في رعشاتهما، أو مكاتباتهما السرية.
قاد ميشال جريديني أوركسترا الراحلة صباح، وأوركسترات أخرى بأمانة مزدوجة

لا مقولات عقائدية لدى المايسترو ميشال جريديني، لأنّ العقيدة تفترض الانقلاب عليها أو تأليهها. وهذا ما لم يرسمه العازف المعروف كشكل من أشكال شروط استمراره. كل وعر يتحول إلى سهل وهو يضعه على أصابعه، إذ تمنح السرد أبعاداً على أبعاد على الغيتار. آلة تعود إلى عام ١٨٨٠ ق.م. بشكلها ما جرى وصفه في الكتب البابلية والفرعونية القديمة. شكل بأشكال لم تحمل إلى شكلها الأخير اعتباطاً، بعد تطويرها بتلقيمها ضرورة التمدد بين البطن والأصابع. هكذا، افتتح عرقه الآخر، عرقه الثالث بعد العزف والتأليف، في محترف لا يضع الريش على رأسه لكي يلفت انتباه العابرين، لأنه أضحى ذا أثر عميق في حياة الكثير من المواطنين، من أرادوا أن يمتلكوا دقة العزف وكل ما هو مجهول في هذه الآلة، مرجعه الأول في التأليف الموسيقي بعيداً من تأليفات الوزال الشائكة، الجافة. ذلك أنّ تأليفاته، حين تذهب بإعادة اكتشاف طبائع العزف بالتأليف والتأليف بالعزف، إنما هي هيام في مدارات الموسيقى على ما يريدها الموسيقي لا على ما يقتضي حضورها من حضورها، بالابتعاد عن حياته وذاكرته. إنها جزء منهما. الموسيقى برية، يقربها من هذا المفهوم. ثم إنه إذا قرَّبها، حرّض نفسه لا على الطرق الغريبة في التأليف، قدر شعوره بتأليف قريب من اصطحاب نفسه إلى نفسه، إلى بيت ولد فيه وعالم واسع ينتمي إليه.
التعليم يعيد إنتاج جواهز الحياة. إلا أنّ جريديني لا يقدم شيئاً لا يعرفه. لذا يقدم ما يعرف لا كجدّ عجوز، إنما كمعلم عطوف لا يهاب نحت العلاقة بين المعلم والتلميذ بأنين الأصابع وزفرات الروح. في المحترف مناخ الموسيقى، ثم الموسيقى. مناخ الموسيقى بطبيعتها البرية. هكذا يقدم أشغاله كتمارين، بدون أن يتقصّد انتزاعها من طبائعها الشعرية، لأنه يدرك أنه إذا فعل انتزعها من سحرها. هنا يعلم، هنا يراكم، هنا يحول المكتوب إلى أشياء ناطقة بالشغف لا بالجلافة ولا بالمزاح. واحدة من سياساته مع الطلاب، سياسة التخاصم لا الاتفاق. يرسم الأول الأفق بعيداً، بعيداً، بعيداً، لا في مرمى اليد ولا السهولة. هذا طابع المايسترو جريديني الاستثنائي، من توفرت معرفته الكافية من مشيه على هذا الأفق، بوصفه النقطة الأساس في مدينة الديمقراطية الخاصة به أو المحترف. يتحدث في هذه المساحة إلى قرين، لا إلى تابع أو مريد أو مناصر. ما سوف يؤدي إلى ما يسمى التكوين التعاقبي، من مجادلات التعليم للتربية والتربية للتعليم. مربٍّ لا معلّم. هذا ما يتعاطف معه المايسترو جريديني وهو يصوّب على ما يرتسم على أصابع الطلاب من نوتات مؤلفاته، ذات الجوهر البليغ، ما دفع العديدين إلى استعارتها وعزفها على ما هي عليه أو على بعض التوزيعات الملائمة لشغف من اختار المقطوعة. دخول محترم إلى العالم الموسيقي، حين تجد تجربتك مبصرة في مصر والمكسيك ولندن والولايات المتحدة الأميركية، حيث راحت مقطوعاته تولد الموسيقى من الموسيقى كما ولد سقراط السؤال من السؤال.
لا يفصل بين الثقافة المعاصرة وأشكال الثقافات القديمة في تأليفات يقوم وجودها على الابتعاد عن الأسطرة


علاقة المربي بالطلاب علاقة حماية معنوية من خلال الاقتصاد (دولاره بألف وخمسمئة ليرة لبنانية ). توجه عدو لما يجري في البلاد، لأن تعليم العزف لا علاقة له بالتجارة على ما يردد دوماً. وإذ يعتمد التكوين التعاقبي، لأجل الوصول إلى النسق المجرد، يصبح بمقدور الطالب من خلال العلاقة التكوينية أن يأخذ الصلات إلى الصلات، من صلة المعلم بالطالب إلى صلة الطالب بالطالب، حيث يزداد الطالب ثقة لا حيرة وهو يمضي في هذا الكون المجهول بدون ابتذال، ما يضحي القوة العامة للموسيقى. وهذه واحدة من ميزات المايسترو جريديني الأخرى، حيث حد الوجود ذاته. حد الوجود ذي الوجود. يدرج المجهول هنا كمجهول أولاً على التفاوت التاريخي، ثم يذهب إلى ما يفرضه تحدي المجهول من خلال العزف وتعليم العزف ونقد العزف بتطويره. لأن تطوير العزف نقد الثابت بالراهن والجديد، لا الراهن الوحيد. هذا موقع التعليم عند المايسترو جريديني على صعيد الأهداف والغايات. فهم المطلق لا للوصول إلى المطلق، لأن التوجه إلى المطلق بالفن، لا وجه بشرياً له، حيث الفنون هي احتمالات لا حقائق نهائية. وإذ تصل إلى المرحلة هذه تتجمّد. سوف تأتي محاولات التدقيق في مرحلة لاحقة، حيث تؤتي العمليات ثمارها معبرة عن الإيمان المشترك بين المعلم والمتعلم.
صاحب تجربة لا يفصل بين الثقافة المعاصرة وأشكال الثقافات القديمة في تأليفات يقوم وجودها على الابتعاد عن الأسطرة بالتأليف بصالح ما يسمى «السهل الممتنع»، ولو أن جملته تعود أنطولوجياً إلى الغرب أكثر مما تعود إلى الشرق . كتابه «آنو دي غويتارا» ككتبه التعليمية الخمسة الأخرى للكبار والصغار، يجمل الصعد العديدة في توجهه الموسيقي، حيث تحضر الصعد الأربعة المتكررة لديه: صعيد الحياة اليومية، الصعيد الاجتماعي والوطني، صعيد الثقافة، صعيد الأنظومة بوظائفها التعبيرية. بنية ذهنية. هذا ما تجده في مؤلفاته البعيدة من الرقص البهلواني إلى إحكام الحياة بالموسيقى على ألواح ترفض الوقوع في الشبهات المذوّبة بالسكر. أستاذ مادة الموسيقى بالأدفتنست يخمر تجربته بالكتابة النصية واللحنية لا بالكسل ولا بالانكسار، بالروح المتراكمة بالجوهر البعيد من الخرائب والحروب. حربه الوحيدة حرب بيضاء، حرب التعليم الممتعة والتأليف الممتع والتعويض لا العوض. هكذا يقترب احياؤه من الفردوس في هذه الجهنم، حيث تحارب ملائكة الموسيقى الشياطين بعيداً من المحاولات الزائفة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا