في معرض قراءتي عن حياة أحد كبار المعتزلة ورموزهم في تاريخ الإسلام، وهو أبو إسحاق النظّام، وجدتُ له كلاماً مُدهشاً – بالقياس إلى زمانه – حول إحدى الظواهر الطبيعية. فهذا نصّ كلامه عن ظاهرة تبخّر الماء وتحوّله الى مطر: «ثم تعود تلك الأمواهُ سيولاً تطلبُ الحدور (الحدور: مكان ينحدر فيه)، وتطلبُ القرار، وتجري في أعماق الأرض، حتى تصير إلى ذلك الهواء، فليس يضيعُ من الماء شيء، ولا يبطلُ منه شيء». أليس هذا ذات كلامِ أهلِ العلم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟ ألا يعني كلامُهُ أن المادة لا تفنى ولا تُستحدث، ولكن تتحول من شكل إلى آخر؟
من مخطوطة «معراج نامه» (840 هـ)

فالمُدهش أنّ هذا الكلام يصدر عن شخصٍ وُلِد سنة 185 هجرية، أي أنّه عاش قبل أكثر من 1200 سنة، ولم تكن في زمانه علومُ البشرِ قد تطوّرت، ولا مبادئ الفيزياء قد عُرفت وشاعت، بل كان عصرُهُ بدائياً في ما يتعلق بمعارف الطبيعة، بلا مختبرات ولا أجهزة قياس ولا موازنات للبحث العلمي... كان الناسُ في أيامه ينسبون كل شيء إلى الله، فالله يخلقُ المطر، والله يُرسله حيث يشاء، وليس للأمر علاقة بتبخّر الماء بفعل الحرارة ولا بدورته في الطبيعة.
فكيف إذن يصدر عن النظّام ذلك الكلام العلمي الدقيق؟! أين السرّ ؟
الجواب هو في العقل العلمي. فالعقلُ العلميّ نسَقٌ واحدٌ على اختلاف الأجيال والأزمان. العقلُ العلميّ هو طريقة تفكير يتميّز بها بَشَرٌ يجمعُ بينهم منطقٌ عقلانيّ يرتكزُ الى تحليل الظواهر والشواهد، وربط المسبّباتِ بالأسباب، والمقدماتِ بالنتائج، ويفهمُ هذا العالمَ الماديّ كما هو، ماديّ تسيّره قوانين المادة وليس روحانيّات الأديان ولا عواطف الإنسان...
ولننظر أيضاً إلى النظام وهو يتحدث عن ضغط الماء والهواء فيقول: «ولا بدّ لكل محصورٍ من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر الحصار، وكذلك الماء إذا اختنق». ألا يعني هذا أن الضغط الداخلي يعادلُ الضغط الخارجي في حالة الاتّزان؟
وها هو النظام أيضاً يخالف ما كان شائعاً في زمانه من أنّ الكون كلّه يتكوّن من عناصر أساسية أربعة: الماء والهواء والنار والتراب، فهكذا يتحدث عن ظاهرة احتراق المصباح الذي يعمل بالزيت (الدهن): «... أن نار المصباح لم تأكل شيئاً من الدهن ولم تشربه، وأن النار لا تأكل ولا تشرب ولكنّ الدهنَ ينقصُ على قدر ما يخرج منه من الدخان والنار الكامنين، اللذين كانا فيه. وإذا خرج كل شيء فهو بطلانه». ومعنى هذا الكلام أنّ النار طاقة كامنة تخرج من داخل الزيت بفعل الاحتراق، والزيت سينتهي (بُطلانُهُ) بعدما يتحول كل ما بداخله من طاقة كامنة الى دخانٍ بفعل استمرار الاحتراق.
فأيّ عقلٍ علميّ امتلك ذلك الرجل؟
ما أعظم عقل الانسان، وما أروعه حين يحلّق ويبدعُ إذا تحرر من قيود الخرافة وأغلال الوهم...

* كاتب وباحث من الأردن



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا