يوماً ما، كانت كتب نوال السعداوي «ماركة مسجّلة» لأجيال من النساء. ماركة بمذاق مختلف يمنح الأخريات شجاعة التمرّد والعصيان، وفي المقابل، كانت «مسجّلة خطر» في قوائم المؤسستين الرسمية والدينية، فهذه الطبيبة التي اقتحمت الساحة في خمسينيات القرن المنصرم، لم تكتفِ بارتداء المريول الأبيض في ردهات مستشفى القصر العيني أثناء وردية العمل وحسب، إنما سعت إلى إماطة اللثام عن مشكلات المرأة بوصفها جسداً منتهكاً لعبودية الأعراف الذكورية في كتابات جريئة وضعتها في مهب اتهامات تتعلّق بالتكفير وتجاوز الخطوط الحمر، بانتقالها من فضح جرائم الختان إلى القهر الجنسي والديني، والعذرية، والحجاب.

دزينة كاملة من الممنوعات بجرعات عالية قادتها إلى السجن، لكن صاحبة «الأنثى هي الأصل» واصلت رحلتها في هتك المحرمات بصوتٍ عالٍ في سرديات محمولة على ثلاثية الحرية والكرامة والعدالة، بقصد تحطيم الأصنام المتوارثة، وتقويض القيود التي فرضها المجتمع الذكوري على حرية المرأة. ذلك أن «اضطهاد المرأةِ لا يَرجعُ إلى الشرقِ أو الغربِ أو الإسلامِ أو الأديان، ولكنَّه يَرجعُ أساساً إلى النُّظم الأبوية في المجتمعِ البَشريِّ كلِّه» تقول. هكذا استقطبت نوال السعداوي شريحة واسعة من النساء بأطروحاتها الخشنة، قبل أن تتمكّن المؤسسة الرسمية والدينية من التضييق عليها، وقبل بزوغ موجة «النسوية المائعة» التي خضعت للشكلانية بقوة تأثير المنح الوافدة، وانتشار الجمعيات النسوية التي تديرها نخب متعالية لا تعلم ماذا يحدث في الشوارع الخلفية للمجتمع. كأن ما حدث لاحقاً أتى انتقاماً من أطروحات نوال السعداوي أكثر منه تضامناً معها، خصوصاً مع الانتشار الكاسح لموجة التحجّب، ثم موجة النقاب التي اجتاحت الشارع المصري والعربي. لكن صاحبة «امرأة عند نقطة الصفر» سعت إلى توسيع دائرة الرفض للموروث الشعبي في ما يخص النظرة المستقرة لكيان المرأة، في معارك طاحنة لم تتوقّف يوماً. معارك على كل الجبهات، لقناعتها بأن أذرع الفساد والجهل والاضطهاد تقع في دائرة واحدة، وتنطلق من خندق واحد. ولكن ماذا عن نوال السعداوي الروائية؟
استقطبت شريحة واسعة من النساء بأطروحاتها الخشنة، قبل بزوغ موجة «النسوية المائعة»

في السجل النقدي للرواية العربية، لا نقع على دراسات تأسيسية تضع كتابات صاحبة «سقوط الإمام» في تيارٍ ما، إنما تنشغل بالمحتوى المضاد والأسئلة الإشكالية التي تطرحها أكثر من عنايتها بالمتن السردي، فالنسيج الحكائي الواقعي ينتصر على عمل المخيّلة. وتالياً، فإنّ معظم أعمالها الروائية تصبّ في توثيق وقائع عن اضطهاد المرأة بنوع من التراكم والتكرار لمصائر نساء تحت وطأة العنف الذكوري «وأدركتُ أنني تخلَّصتُ من آخِر قطرةٍ منَ القُدْسية في دمي، وأَصبحَ عقلي واعياً بالحقيقة؛ حقيقة أنني أُفضِّلُ أن أَكونَ مُومِساً عن أن أَكون قِدِّيسةً مخدوعة» (امرأة عند نقطة الصفر).
غابت نوال السعداوي بشعرها الأبيض المنكوش، وملامحها الصارمة، ومعاركها الشرسة.. ستفتقدها المحطات الفضائية بوصفها صيداً دسماً لساعة من الجدل والإثارة والتريند، كما سيتنفّس خصومها الصعداء، نساءً ورجالاً!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا