لم تُحِبّ الولايات المتحدة، التي تُصدّر دوماً وجهها المنتصر كما قيم نجاحها وحلمها، الذين شكّكوا في جنونها التجاري، بسعادتها المادية المصطنعة، المعروضة في واجهة المتاجر الكبرى.لو عدنا إلى الوراء قليلاً، إلى أعمال جاك لندن الأدبية كما إلى حركته الاحتجاجية، وانتحاره في آخر المطاف، لوجدنا من دون شك، أنها كانت هي من حمل البذور الحقيقية لحركة «البيت»، التي كان تأثيرها، عند انطلاقتها، تأثيراً أدبياً بحتاً، كي تعرف في ما بعد، صدى مدهشاً عند شبيبة الستينيات التي أنجبت لاحقاً «جيل البيتنيكس».
كلّ شيء في هذه الحركة، كما عند جاك لندن، ثار ضد لا إنسانية المجتمع الأميركي المعاصر، الصناعي، العسكري... هذه الحركة، التي ضمّت جاك كرواك ووليام بوروز وآلن غيسنبيرغ وغاري سنايدر وغريغوري كورسو ولورانس فيرلنغيتي (جامع هذه التجربة وناشرها، الذي رحل قبل أسابيع) وغيرهم، اشتكت وهاجمت تفاهة وتصنّع المشهد الذي يقترحه علينا المجتمع الاستهلاكي. من هنا، تلك الكراهية، ما بين الولايات المتحدة وأولئك المشتكين.
كان هؤلاء، وقبل أيّ شيء آخر، كتّاباً احتجوا على هذا المجتمع، عبر تصرفاتهم الممتلئة تحريضاً وعنفاً ووقاحةً وسفاهة. لقد سعوا إلى هذا التصرف الذي وضعهم، في نهاية الأمر، خارج قانون التعاقد والمشارطة، كما خارج اللياقة الاجتماعية.
حين نقرأ أدبهم الذي يُعبّر عن رغبة في الهروب، عبر شتى الوسائل (السفر، التيه، الجنّة الاصطناعية من خمر وكحول وما شابه... إلى ما هناك)، نجد فيه الكثير من المواقف المتوارثة من الرومانسيين والرمزيين. مثالهم الإشكالي، هو بطبيعة الحال، ذاك المثال الذي يتأتّى من ذلك الزوج الملعون كما مثلّه بول فيرلين وأرتور رامبو. لكن يجب أن نضيف عليه، التركة السوريالية وسخريتها من الأدب، من دون أن ننسى بالطبع، بعض الوجوه الهندوسية – البوذية الكبيرة (كما عند غينسبيرغ).
لقد حملت حركة «البيت» في طيّاتها – هذه الحركة الأدبية والنخبوية – عند انطلاقتها، جميع أنواع «المتفجرات» التي كان باستطاعتها أن تسحر أجيالاً من الشبّان العاطلين عن العمل، الذين كانوا يبحثون عن قيم جديدة. هي تلك الأجيال المصدومة بذكرى قنبلة هيروشيما وبـــ «الأبعاد الميّتة التي فتحتها أمام البشرية» (فيما لو استعدنا فكرة تقولها أشهر قصائد غريغوري كورسو، «قنبلة»). لم تجد هذه الأجيال، مكانة لها في المجتمع الذي انتصرت فيه «المركنتالية» و«الهوس التكنولوجي». خاب أملهم بالحياة، حتى قبل أن يعيشوها، لذا وجدوا في أدب «البيت»، هذا «الأدب المؤذي والضارّ»، بعض مفاتيح أبواب حياة – حتى ولو كانت افتراضية (فيما لو استعملنا لغة عصرنا هذا) – مثلما وجدوا بعض «السموم القاتلة».
تحوّلت مكتبته إلى أسطورة، لأنها شكّلت المختبر الحقيقي لهذه الحركة


شكّل كتاب كرواك «على الطريق»، الزاد الوحيد الذي حمله معهم هؤلاء «البيتنيكس» وهم في طريقهم إلى «كاتماندو»، بعدما أعيتهم المخدّرات، معتقدين أنهم وجدوا أخيراً، عند جبال هملايا، الجواب الذي كانت تبحث عنه أرواحهم القلقة، غير المطمئنة. بهذا المعنى أيضاً، جاءت قصيدة غينسبيرغ «عواء»، بعدما وجد بأن أفضل أبناء جيله، قد دمّرهم الجنون، فصرخ صرخته الطويلة في ليل التعب الأميركي الدائم، وما زالت أصداؤها ترنّ إلى اليوم.
قصيدة «قنبلة» لغريغوري كورسو، لا تشذّ في صرختها الأليمة عن قصيدة زميله. هي القنبلة التي وضعت البشرية بأسرها تحت رحمة الجنون النووي. قصيدته «زواج» (ثمة ترجمة عربية جميلة لها قام بها توفيق صايغ ونشرها في كتابه «خمسون قصيدة من الشعر الأميركي»)، تتساءل أيضاً حول انهيار العلاقات البشرية. لقد وجد البعض أن هذا الأدب كان يدفع إلى الجنون والقتل. ربما. لكن في واقع الأمر، هو أدب كُتِب كي ينقذ ويحرر. كي يُنقذ هذه الروح المحطمة، وكي يحرر من التعب الذي يلف كلّ شيء.
كل هذا الأدب، لا يكتمل من دون «بطله الحقيقي» – إذا جاز القول – وهو لورنس فيرلنغيتي، الذي رحل أخيراً. بعيداً عن مجموعته الشعرية A Coney Island of the Mind التي صدرت عام 1958 والتي بيع منها أكثر من مليون نسخة (رقم قياسي)، وبعيداً عن كونه واحداً من الشعراء الأساسيين في القرن العشرين الأميركي، إلا أننا يجب أن نعترف بدوره الكبير في هذه الحركة، على الرغم من أنه كان يتهرب دوماً من الرد عن سؤال كهذا، معتبراً أن دوره لم يكن كبيراً فيها.
لقد لعب الدور الكبير، ولولاه لربما بقيت هذه الحركة، حركة «هامشية»، بمعنى لم تأخذ هذا الاتساع وهذا الحضور. فهو الذي أسس مكتبة «سيتي لايتس» (سان فرانسيسكو)، أسطورة المكتبات «الشعرية» في العالم، واختار اسمها من فيلم تشابلن «أضواء المدينة». تحولت مكتبته إلى أسطورة، لأنها شكلت المختبر الحقيقي لهذه الحركة، ولشعراء كثيرين أتوا لاحقاً. كان أول من نشر – ضمن منشورات المكتبة – كُتب كورسو وبوروز وغينسبيرغ وكيرواك. وهو الذي تعرض للمحاكمة، بسبب نشره كتب «البيت» وبخاصة قصيدة «عواء». محاكمة أسطورية، لأن الولايات المتحدة، لم تفعل شيئاً، سوى تأكيد هذه الصورة الكريهة، المرعبة، التي كان هذا الجيل يثور ضدها، بحثاً عن إنسانية مخالفة لـ «الحلم الأميركي»، الذي لا يزال مستمراً لغاية أيامنا الحالية، وإن اختلفت تقنياته: فبدلاً من «القنبلة»، هناك «الحروب النظيفة»، «التدخل الإنساني» وغيرهما.
ربما غياب (موت) فيرلنغيتي قد أغلق الباب خلف «جيل البيت»، لكنه الباب الجسدي بدون أدنى شك. فأصوات أولئك الكتّاب، لا تزال تأتينا في ليل هذه الإنسانية الطويل، التي تقف ضحية رعب «الويلات» المتحدة.




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا