تحتفي علويّة صبح في روايتها الجديدة «أن تعشق الحياة» (دار الآداب)، بما يحتويه الجسد من آلام مبرحة في موازاة الخراب والجروح التي خلّفتها الحروب التي تشتعل حولنا، ليتزاوج ذلك الجسد مع محيطه، عبر شخصيّات تلبّست أدواراً مختلفة عن الحبّ والحنين والموت، عبّرت فيها الراوية «بسمة» عمّا حلّ بجسدها الذي وهبته ليكون أداة فرحٍ في الرقص، وليكون صورة جليّة عن أحلامها وخيباتها المهدّدة دوماً. تُشبه رواية صبح رواياتها السابقة في كونها التزمت أسلوب المخاطبة. من خلاله، قدّمت لنا سيرة ذاتيّة عن مرضِها. وبقيت على مشاكستها لواقعٍ مزرٍ عاشته طفلة وعاينته في الكبر، جمعت فيه تلك الشخصيّات، التي ركّزت من خلالها على هذا الترابط الذاتي والموضوعي في نقل السيرة، التي بلغت 22 فصلاً.هذا التلاقي بين مرضها والتمزّق العربي من حولها، تُظهره الراوية بسمة، إذ تقول: «... إنّ شَفَتيَّ ترتجفان، وارتجاجات صدري تحت قميصي تجعله يهتزّ، وأن كتفيَّ هما متصلّبتان... وعندما بدأت الحروب تشتعل من حولنا، شعرتُ بأنّ جسدي زادت ارتجاجاته وتشنّجاته وأنّ قدميَّ لا تُسعفانني على الحركة، وشعرتُ أنّي مهدّدة». ثمّ تعود لتسألَ نفسها: «هل عنّفت الحروب جسدي الذي يبدو كأنّه يتحمّلها وتستهدفه، وتشَابهَ مع التصدّعات الواقعة عليه من حروب وثورات وهزائم وخيبات».
قراءة الرواية تتطلّب تبحّراً في العلاقات التي تنشئها بين صديقاتها وحبّها الأوّل لأحمد الذي وافته المنيّة بفعلِ مرضه وانتحار أبيها: «الغريب أن حروف الحبرِ عليها تزداد تألّقاً. هل يتهيّأ لي ذلك؟ ابتسمتُ حين خطرَ ببالي أن يدَ أحمد تتسلّل إلى الأوراقِ وتُعيد كتابتها بحبرٍ طازج كيلا أنساها. لكنّي تذكّرتُ عندها ما قاله لي يوم أعطاني الوصيّة، إن الأوراق كما البشر، كما سائر الكائنات، كلّها تزول ... وحدها الكلمات الجميلة لا زمن لها، بل هي رئة البشر والحياة» من وصيّة أحمد إليها قبل وفاته. أمّا علاقتها المتعبة بالرسّام يوسف الذي تزوّجته وبقي كل منهما في منزله، فتُقدّم لنا الراوية هذا الوصف الرائع لعشقها له: «رسَمَني بكل حالاتي، وفي أشكال تعبيريّة مختلفة. رسَمَني فرحة، حزينة، وحشيّة، بريئة، شبقة، غاضبة... عيناه كانت تُعلمانني ما لم تُعلمني إيّاه المرآة والأحاسيس التي أشعر بها وأجهل أسبابها. والغريب أنّه حتّى حين رسَمَني تكون صورتي في اللوحة لا تُشبهني أشعر أنها كذلك، وأنّني موجودة فيها لأنّني أسكن قلبه».
الجسد المعتلّ رمز إلى بلداننا التي نهشتها الحروب


تكتسب الرواية إمتاعاً للعيش في وجه الألم، ويتواجه الفن معه، متجسّداً في هيام البطلة بسمة بالرقصِ وحبّها للحياة حيث تعانق الموسيقى جسدها، وتتوقف لغات العالم لتصغي إليه. فالرقص فعلٌ إنسانيّ وجمالي محض. وقد صار الجسد متصالحاً معها، لأنّها عايشت فيه الحياة والحب والرقص والحريّة، وهو يعزفُ لها ألحاناً تتسع للعالم كلّه: «حين أستسلم لجسدي الراقص، كنتُ أشعر أن الجمهور يرقص هو أيضاً. كأنّ أجساد الناس امتدادٌ لجسدي. جسدي كان اللغة التي أتقنها أكثر من سائر اللغات التي تعلمتها».
في محاولتها هذه، تُجلي الكاتبة وتصوغ عبر الحكايات المتعدّدة لأبطالها النساء والرجال، ما تعيشه من مِحَن وحروب، من دون أن تغوص في الممرّات التاريخيّة، بل في مظاهرها السياسيّة والاجتماعيّة الخارجيّة. مظاهر من تجارب الحركات السياسيّة والدينيّة التي نهشت مجتمعاتها، كما نهش المرض جسدها، إذ هي تعبّر على هوامشها أحياناً، ما عدا تركيزها على الحركات السياسيّة ذات الإيديولوجيا الدينيّة، فتصيب البشر والبنى الاجتماعيّة، وما يعتريها من خوفٍ من أن يصبح حبيبها يوسف شبيهاً بذلك العالم الخارجي.
ما كانت تراه على شاشة التلفزة عن تيريز المسيحيّة في سوريا، جعلها تتذكّر حين هدّد الدواعش زوجها بالقتل لإجباره على أن يُسلم. «فقال لهم: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله... لكنّهم مع ذلك قتلوه ذبحاً. وحين شاهدتُ رجلاً يقطع صدر رجلٍ ويقتلع قلبه، ورؤوساً تُشوى على النار... أيزيديّات تمّ سبيهنّ ووضعنَ في أقفاص ليُبعنَ في سوق نخاسة الجنس، والأكبر سنّاً بدولار أو دولارين فقط. رؤوس معلّقة على الأشجار وعلى أعمدة الطرقات من المسيحيّين والأيزيديّين والمسلمين الذين رفضوا التقيّد بأوامر الدولة الإسلاميّة».
إنّ بناء العالم الروائي عند علويّة صبح، منطلق كما في رواياتها السابقة من عالمها الخاص، وتجاربها الشخصيّة. صحيح أنّها الشخصيّة المحوريّة في الرواية (بسمة)، لكن تمدّد الشخصيّات الأخرى لتوازي الأحداث في ثقلها الوظيفي، وتعاقب تلك الأحداث، يُظهران بناء الجماليّة الأدبيّة لديها. كما تحاول ملامسة سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعيّة وتقاليد العيش، سواء من زاوية الخطاب المذهبي في لبنان أو من خلال سلوكيّات المرأة وسرديّات عن قساوة حياتها في مجتمعٍ ذكوري فظ، ومكابدة التمييز الجنسي الذي يذهب إلى مستويات تعود إلى مفاهيم ظلاميّة بالية. وهي لا تني تواصل كسرها للتابو الديني في مواكبتها الدائمة لقضيّة المرأة أدبيّاً وإنسانيّاً.
تذهب علويّة صبح في مشاكستها الدائمة لتطاول جميع المكوّنات السياسيّة حولها، بما فيها قربها السابق من الحزب الشيوعي الذي «تلوّثت يداه بالدم وانغماسه في حرب طائفيّة». ومن ذلك حديثها عن عيسى الذي كان مرافقاً لمسؤول في المقاومة الفلسطينيّة مُدمن على المخدّرات والكحول، وعشقه للمرأة الشقراء ونعوته الأخلاقيّة المبرمة عن النساء عموماً. وهي في ذلك تبالغ في هذا الوصف الذي يبدو إسقاطاً على فردٍ من منظومة عامة تطاول قضيّة المقاومة الفلسطينيّة.
لكن وسط ما أبحرت به الكاتبة، بكل ما يجول حولنا من حروب، لماذا غفلت عن ذكر قساوة الحروب التي تقوم بها إسرائيل وما تسبّبه من دمار ونزوح وقروح في الحياة، وفي الجسد... أليس غريباً أن تغيب إسرائيل عن خارطة المآسي التي تدبّ في الأمة؟!
تتناول التحوّلات التي أصابت حبيبها الرسّام يوسف، الفنّان البوهيميّ العبثي العاشق فنّه إلى أبعد الحدود وفلسفته في الحب، وقد صار يتأرجح بين الشك واليقين، ولا سيما بعد مقتل أبيه وإخوته في حادثة ثأر بين عائلتين، وأمّه التي استشهدت خلال حرب تمّوز، وأخيه الذي استشهد أيضاً في سوريا. جسّد يوسف بهذا المعنى شخصيّة دراميّة على مستوى فنّه وعشقه المميّز لبسمة، وكيف أثّرت مجريات الحرب عليه، ليتحوّل إلى شخصيّة دينيّة متشدّدة، انعكست على بسمة وعلى فنّه ومجمل حياته. تتناسل رواية علويّة صبح بجرعات متنوّعة في سردها عن الحب والصداقة، وبذرتها النابعة من مأساة جسد هدّته التشنّجات وفيه من الألم بقدر ما فيه من رغبة العيش، لتكشف أن الرقص والحب ورغبتها العارمة في العيش، يصبح معها شلاّل الذكريات من خلال «بسمة» نقطة إرجاع من أجل انتظام السيولة في الأحداث التي تربط الأنا مع محيطه العائلي والعاطفي.
ولا ننسَ أن علويّة صبح في سردها هذا، تلامس الرمزيّة عندما يتصدّرها الوصف في آلام جسدها، ويصل أحياناً إلى حدود الشعريّة، كما الجاذبيّة التي تفاجئنا بها، في نهاية الرواية كـ «فلاش باك» سينمائي.




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا