لا جديد يُقدّمه المعرض الاستعادي للتشكيلي المغربي فريد بلكاهية (1934- 2014) المُقام حالياً في «مركز بومبيدو» الباريسي تحت عنوان «من أجل حداثة أخرى» (لغاية 21 حزيران/ يونيو). فالأعمال سبق للزائر مُشاهدتها داخل المغرب وخارجه، لكنّ أهميّته ــ وفق بيان المعرض ـــ تنبع في الأساس من قيمة بلكاهية كفنّان عربي، وما استطاعت أعماله أن تجترحه من تغييرات مفاهيمية ورؤى جمالية على مستوى علاقة الفنان العربي بالمادة. المعرض لم يخرج على مستوى شكله من الإطار الإبيستمولوجي، الذي تحتكم إليه تجربة فريد بلكاهية على مستوى تحقيبها التاريخي: المرحلة الأولى المُتمثّلة في براغ وما رافقها من تأثّر الفنّان وتفاعله مع القضايا السياسية التي طاولت العالم. ثمّ هناك المرحلة الثانية، التي تتجلّى في عودة بلكاهية إلى المغرب عام 1962 «بحثاً عن جذوره» وولوج تجربة التدريس التي أفرزت اسم بلكاهية كفنّان عالمي يحتفي به «مركز بومبيدو» اليوم. نادراً ما يتحدث الباحثون والنقاد العرب عن مرحلة براغ، بما فيها أعمال المعرض نفسه، رغم أهميّتها وقدرتها على التقاط تفاصيل صغيرة من حياة بلكاهية وهو طالب في خمسينيات القرن الماضي. على هذا الأساس، تبقى تجربته التراثية أكثر التجارب التشكيليّة، التي أنصفتها الكتابات النقدية داخل المغرب وخارجه، نظراً إلى أهميّته أولاً كفنان فتح المحترف التشكيلي العربي على هذا الموروث الجمالي، باعتباره يُشكّل أفقاً منهجياً للتخييل الفني، الذي كاد قبل جيل الستينيات أن يكون حكراً على أساليب غربية بامتياز، وثانياً بسبب نخبة مؤسّسات فنية فرنكوفونية لعبت دوراً كبيراً في حياة بلكاهية وتثمين تجربته وجعلها تدخل في سجالٍ حقيقيّ مع واقع الثقافة المغربيّة منذ سبعينيات القرن العشرين.
من المعرض الباريسي

وهذا العامل بقدر ما هو مهمٌّ، فإنّ للثاني سطوة أضحت بمثابة علامة وجود لحياة بلكاهية الفنية، التي لطالما اعتبرها النقاد التجربة الأكثر أصالة وامتداداً لخصوصيات «الهوية» المغربيّة، بحكم قدرته على تشرّب هذه الهوية فنياً وتطويع مفاهيمها جمالياً، حتى استحال في مراحل متعددة فصل لوحات بلكاهية عن التراث المغربي وتاريخه وقلقه ومآزقه الوجودية، في وقت شهد فيه البلد صراعاً حقيقياً بين تنانين التقليد ودعاة الحداثة، حتى لو كانت هذه الأخيرة مُجتثّة من جذورها. لكن فريد بلكاهية، بدا كأنّه يقف في هذا «الما بين»، أي الأصالة والمعاصرة، فهو بقدر ما انتمى على مستوى التقنية والفعل التشكيلي إلى الحداثة الغربية في مرحلته الأولى، ظلّت أساليبه وأشكاله ومواده أكثر أصالةً، يجعل جسده يتوغّل أكثر داخل مسام هذه الحداثة، التي لم تكُن قد تبلورت أكثر داخل المحترف التشكيلي المغربي في تلك الفترة. لذلك، فإنّ ذهاب بلكاهية إلى التراث وموروثه البصري، شكّل خرقاً داخل التشكيل العربي، في وقت ظلّ فيه الفنّان تابعاً للحركة التشكيليّة الغربية بمختلف تياراتها ومدارسها وحركاتها. هذا الأمر، قاد بلكاهية (وغيره) إلى اكتشاف هذا المنسيّ واللامُفكّر فيه داخل التاريخ المغربي. إنّ هذا الخرق الذي أحدثه من خلال السفر في تخوم المادة وتفجير مكنوناتها، جعله أكثر الفنانين الذين فتحوا آفاقاً رحبة للساحة التشكيليّة المغربيّة على مستوى البحث عن طرق أخرى للتعبير من خلال الرهان على المواد المحلية المغربيّة من حناء ونحاس وجبص وجلد. فهذه المواد، لم يكُن مُفكّراً فيها في ذلك الوقت. كان بلكاهية كأنّه اكتشف كنزاً على مستوى تعامله مع عجين المادة وألوانها وأشكالها. في المقابل، ذهبت باقي الأسماء التشكيليّة الأخرى، التي جايلته، إلى تموّجات الأشكال (محمّد المليحي) وصفاء العلامة (أحمد الشرقاوي)، لكنّ هذه التجارب المذكورة، ظلّت تلتقي حول مفهوم الهوية، التي أضحت بمثابة سرديّة أنطولوجيّة ميّزت المُحترف التشكيلي، منذ نهاية ستينيات القرن العشرين داخل المغرب، بالنظر إلى تجربة الجيلالي الغرباوي على سبيل المثال. تجربة بقيت غربية بامتياز وخاضعة في شروطها الفنية ومواضعاتها الجمالية، بحيث إنّ هذا النزوع صوب التجريد الغنائي في مغرب الستينيات خلق تواشجاً فنياً، بين تجارب تنطلق من هوية مغربيّة وتاريخها عن طريق المواد والأساليب والأشكال، وأخرى ترفض هذه الهويّة إجرائياً والركون لحظة التعبير الفني إلى قلق الذات ومواجعها، كما هو الأمر في تجربة الغرباوي، التي ظلّت تهجس بشكل خفيّ بالقلق والحيرة والألم والتمرّد على طبيعة الحياة اليومية وقلقها الأنطولوجي.
ستكون «جماعة 65» أوّل مجموعة فنيّة تُعيد الاعتبار إلى التراث المغربي


رياح التجديد التي طاولت المُحترف التشكيلي لدى فريد بلكاهية وباقي التجارب الأخرى، التي تُعرف اليوم داخل أدبيّات النقد الفني بـ «جماعة 65» كانت في بداياتها نتيجة نوع من مُثاقفة تلقائية، تمّت عن طريق دراسة فريد بلكاهية في فرنسا وإيطاليا وبراغ، واحتكاكه بأنماط وأساليب ومدارس وتيارات وحركات، بدأت تكتسح طوبوغرافيات الفنّ في العالم، وإن كان بلكاهية بسبب حساسيته الفنية التجديدية غير موافق على الطريقة، التي يُلقّن بها الرسم آنذاك. يقول عن هذه المرحلة: «لقد كنت مرتعباً من رؤية أربعين شخصاً، وأربعين مسنداً، والكل يرسم الشيء ذاته، بالألوان الداكنة الرمادية نفسها. ما كنا نفعله، لم يكُن في نظري يمت إلى الفنّ ولا إلى الإبداع بصلة». الرفض القطعي الذي طبع تجربة بلكاهية أمام كل الموجات والتيارات، التي باغتت الفنّ المعاصر، لم يكُن يهتم بها ولا حتى يجعلها تستوطن مخياله وكيانه في مرحلة معانقة اللوحة ورحابتها الوجودية. ورغم تأثير بعض التجارب الغربية في تجربة بلكاهية في مرحلته التعبيرية، التي عُرفت بـ «مرحلة براغ»، لكنّه تجاوزها، منذ عودته إلى المغرب سنة 1962 بدعوة من المحجوب بن الصديق (الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل) لإدارة مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء. هناك، سيعمل إلى جانب بعض الفنانين على تجديد الحياة التعليمية وضخّ دماء جديدة في شرايينها وفي جسدها المنخور، كمُحاولة للقطع مع الترسّبات الاستعمارية من طرق تعليمية ومناهج بيداغوجية موروثة عن الحقبة الكولونياليّة، بما هي تأزيمٌ للمُخيّلة وفرض لأشكال وقوالب مُعيّنة، من دون إمكانية التفكير في الثورة على هذه القوالب. ستكون «جماعة 65» أوّل مجموعة فنيّة تُعيد الاعتبار إلى التراث المغربي وتجعله يحتل الصدارة في تطويع مفردات بصريّة جديدة داخل المُحترف التشكيلي المحلي في ذلك الوقت المُبكّر.
«كُنت أريد الذهاب بحثاً عن منابعي الثقافية، تحدوني رغبة ملحة في أن أعرف من أين أتيت». بهذه العبارة يُلخص بلكاهية عودته إلى المغرب، حيث سينخرط في تكثيف الدروس داخل مدرسة الفنون الجميلة وتلقين الطلبة حرية الفنّ كما آمن بها، وليس تعليمهم الفنّ. هذا التفكير المُغاير في اعتبار مفهوم اللوحة فضاء للحرية والحلم والتجريب، قاد أجيالاً بأكملها إلى أنْ تغوص عميقاً في التراث المغربي بمُختلف أنواعه وألوانه وقضاياه المُتشعّبة. ستجد إطاره النظري في كتاب «الاسم العربي الجريح» (ترجمة محمّد بنيس) بوصفه المرجع المهمّ، الذي سيُبلور خطاباً فكرياً مُتكاملاً حول موضوع التراث اللامادي (الثقافة الشعبية) يمتح مُنطلقاته الإبستمولوجية من التاريخ والأنثروبولوجيا والسيميولوجيا والفلسفة. لكن هذا النزوع التجديدي، الذي طبع مسار بلكاهية، لم يبق رهين الدرس الفني داخل مدرسة الفنون الجميلة، وإنّما أثّر حتى على تجربته كفنّان تشكيلي قادم من أدغال الفنّ الغربي، عازماً على إحداث ثورة فنية داخل بلده. لكن السؤال الذي يظلّ مطروحاً في تجربة بلكاهية: هل هذا الانغماس في التراث شكلاً ومادةً، كان نتيجة حدس فني ألمّ بجسد الفنّان في مرحلة براغ؟ أم هو يعود في أصله إلى التطوّرات الفكرية القادمة من المشرق، التي شهدتها الثقافة (بمفهومها الأنثروبولوجي عند إدوارد تايلر) المغربيّة عموماً خلال الستينيات؟
بالنظر إلى خصوصية الثقافة المغربيّة في هذه المرحلة، يكتشف المرء أنّ التشكيل كان أكثر الفنون البصريّة والتعبيريّة، التي استحوذ على مُتخيّلها الجمالي مفهوم الهوية، بوصفه قضية مركزية في خصوصية الأعمال الإبداعية، لكن ليس فقط كميسم فني أو تجديد جمالي، إنّما كقضية فكرية، بدأت تكتسح كل أشكال الخيال والإبداع في المغرب. كما أنّ النظرة إلى هذه «الهوية» قد اختلفت وتفاوتت درجات وعيها، وبالتالي معالجتها أو حتى إقحامها داخل اللوحة. هكذا، برزت أعمال خلال السبعينيات تُعرّف عن نفسها بكونها تشتغل على الهوية والتراث، فقط لأنّ صاحبها وضع في اللوحة زليجة أو مخطوطاً أو كتابة كوليغرافية أو علامة بصريّة أو شكلاً أيقونياً، يستمد ملامحه من الحضارة العربيّة الإسلامية وموروثها البصري المُستند إلى صورٍ وحكايات. غير أنّ هذه النظرة إلى الهوية لم تكُن تخفي إلاّ ارتجاجاً عميقاً في أعمال هؤلاء الفنانين. هذا الأمر، انتبه له فريد بلكاهية، فأدخل للمرة الأولى في تاريخ التدريس الفني مجال الحرف اليدوية وصنائعها البديعة والنفيسة من نحاس وطين وفخار. هذه المواد التي ستلعب دوراً كبيراً في تجديد الدرس الفني ومعه تجربة بلكاهية الفنية، الذي يكاد يكون قد فتح قارّة مجهولة في علاقة الفنّان بالمادة والشكل في ما بعد، وإن وَجَدَ بلكاهية نفسه بشكل تلقائي، قد انغمس على مستوى الشكل والتقنية في مدارس غربية. غير أنّ هذا التأثير بالغرب وتجاربه، لم يُعمّر طويلاً في مشاغله الفنية، إذ سرعان ما سيتجاوز بلكاهية عنصر التأثير، الذي هو في الحقيقة غير سلبي، بالنظر إلى الأعمال الأولى لأيّ فنّان، خاصّة أنّ الفنّ دائماً ما يعيش في هذا التزاوج والتأثير والتأثّر، الذي جعل منه بلكاهية مجرّد عملية ذاتية لاستيعاب كل الأشكال والقوالب الفنية وهو طالب في باريس.


أما العامل الثاني، الذي أسهم في تأجيج رياح التجديد والمعاصرة، فيتمثّل في أنّ الفنّان، قد بدأ الاهتمام بالدفاع عن التراث والحداثة في الوقت الذي أحس فيه أنّ هويته باتت مهدّدة ومُستلبة من لدن اجتياح العولمة، التي أضحى فيها العالم أشبه ما يكون بقرية صغيرة، تختفي فيها الحواجز بين الدول. فكان الالتفات إلى التغيّرات، التي بدأت تطاول المغرب سياسياً وثقافياً والرهان أكثر على مفهوم الحداثة كأحد أبرز المنافذ، سيتوغّل بلكاهية من خلالها إلى تشريح جسد اللوحة وتفجير مكنوناتها على مستوى المادة واجتراح «مشروع» تشكيليّ مغربيّ، لا هو يستند بشكل كليّ إلى صورة الغرب ولا هو يُقيم في هوية عمياء، لا ترى ذاتها وإمكانية تحقّقها كفعل ووجود، إلاّ في ماضيها السحيق. هذه الرؤية المُختلفة التي ميّزت تجربة بلكاهية في النظر إلى الهوية التشكيليّة، جعلته أحد أقطاب التشكيل العربي وإحدى علاماته البارزة في التفكير في الحداثة من داخل التراث البصري العربي، بخاصّة أنّ هذا الازدواج في الرؤية، أتاح لتجربته الغوص عميقاً في الهوية المغربيّة، كما تشكّلت معالمها آنذاك، لكنّها بقيت علامة بصريّة مُتحوّلة. فهي بقدر ما تعيش داخل تاريخها المحليّ، تتنطّع إلى أن تغدو كونية، بما تجهر به من أسئلة عن حقيقتنا وانتماءاتها ومآزقنا الوجودية، لكنّ بالطريقة التي غدت فيها هذه الهوية الفنية كأنّها تكتسي أهميّتها ووجودها من خلال شبح الاستعمار وميثولوجياته الاستشراقية.
من ثمّ، فإنّ الإجابة عن السؤال المطروح، تبقى رهينةً بهذا الآخر/ المُهدّد لوجود الذات، أي أنّ الحديث عن الهوية لا يتأتى بمعزل عن الاستعمار، لأنّه هو من يُغذي الشعور الجمعي ومعه لاوعي بلكاهية بأنّه المُحرّك الخفيّ لهذه الهوية، التي غدت تستوطن مُتخيّل الفنّان، وبالتالي تُحتّم عليه الانخراط في صلب الهوية وتطويع مفرداتها الأنثروبولوجية تصويرياً على شكل مُقاومة مشروعة، يحتمي بها الفنّان لمُواجهة هذا الآخر المُتمثّل في الاستعمار وإرهاصاتٍ فكرية أصبحت واضحة المعالم من أجل تنميط الحركة التشكيليّة المغربيّة وقوقعتها داخل أنساق وأشكال وقوالب.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا