لندن | الملكيّة في بريطانيا ليست مجرّد زخرف فولكلوري كما قد يتبادر إلى ذهن كثيرين، بل ضمانة ديمومة هيمنة الطبقة الحاكمة دستوريّاً على النظام السياسي في البلاد. إنها برنامج تلفزيون واقع بلا نهاية تتم إداراته بعناية وحرفيّة وجديّة لتعزيز تلك الهيمنة. ولذا، عندما حاول الأمير هاري صاحب الترتيب السادس في ترتيب العرش وزوجته، أميرة ساسكس، الممثلة الأميركية من أصول أفريقيّة ميغان الخروج عن توجّهات «المؤسسة»، والانتقال للإقامة في الولايات المتحدة مع التخلّي عن المهمات الرسميّة المرتبطة بالألقاب الملكيّة، كان القرار حاسماً بـ «فصلهما» من الخدمة. أمر أثار عاصفة من ردود الأفعال والتعليقات في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تتحوّل إلى حرب تصريحات وتسريبات مضادة، آخرها المقابلة التي أعطاها الثنائي «المفصول» لبرنامج أوبرا وينفري الشهير وشاهدها ملايين حول العالم
إذا استمعت إلى الأخبار بشأن بريطانيا أخيراً، لا بدّ من أنّك عرفت بأن فيليب وندسور البالغ 99 عاماً، وعقيل الملكة إليزابيث الثانيّة، نُقل إلى «مستشفى الملك إدوارد السابع» في وسط لندن قبل أكثر من أسبوع. وإذا كنت تصدّق تصريحات القصر الملكيّ الذي لا يختلف في إدارته لمثل هذه الأمور عن الديوان الملكي السعودي، فإن الدوق العجوز يبدو «مرتاحاً ومستجيباً للعلاج»، وسيبقى هناك أياماً عدة أخرى «للمراقبة والراحة». تصريحات تخفي حقيقة أنّه يقضي أوقاتاً صعبة مكافحاً عدوى أصيب بها – لا يُعرف إذا كانت كوفيد 19 – في ما اعتبرت أطول إقامة طبيّة له غير مخطط لها منذ أكثر من عقد. وهناك احتمال كبير بأن تقضي عليه قبل أن يصل عامه المئة في حزيران (يونيو) المقبل. سيكون عندها من المسلّي متابعة كيفيّة تعامل «المؤسسة» (أو The Firm ـــ التّعبير ابتدعه الدوق نفسه لوصف أسرة ويندسور الحاكمة قبل أن ينتشر استعماله في الصّحافة ليشير بشيء من السلبيّة إلى نحو من مؤسسة أعمال عائليّة)، مع مراسيم جنازته الملكيّة وسط الوباء العنيد الذي حصد إلى الآن وبسبب الإجرام الجنائي لحكومة جلالة الملكة أكثر من 122 ألفاً دُفنوا على عجل بدون مراسيم، وكيف سيفرض الحداد الإجباري على الأمّة من أجل رجل عاش عشرات السّنوات مستمتعاً بالامتيازات على حساب الخزينة العامّة. تغطية ستكرّس لها التلفزيونات البريطانية ساعات طويلة لنقل كل شيء على الهواء مباشرة، كذلك الصفحات الطوال التي ستنشرها جرائد لندن عن سيرة الفقيد، بينما لا يحظى ملايين الأطفال البريطانيين ممن لا يحصلون حتى على أكثر من وجبة واحدة في اليوم بواحد في المئة من تلك التغطية القادمة.
بطبيعة الحال، فإن العائلة المالكة البريطانيّة المشهورة باسم سلالة ويندسور (بعد إسقاط الاسم الألماني ساكس-كوبورغ وغوثا بهدوء عام 1917 بسبب ارتفاع المشاعر المعادية للألمان أثناء الحرب العالميّة الاولى) لا تتهاون إطلاقاً في مسألة إدارة العلاقات العامّة، وهي تتعامل مع كل ما يتعلّق بها بدقة وحرفيّة وجديّة كأنّها برنامج تلفزيون واقع مستمرّ بلا نهاية. وهذا أيضاً يعود إلى أنّ مخالفات أفراد الأسرة وفضائحهم تتلقى كميات مذهلة من التغطية الصحافية، ويتم تحليل كل التفاصيل حولهم بشكل مايكروسكوبي. إذ يتمتّع كل منهم كأيّ نجم سينما أو عضو فرقة موسيقى مشهور، بقاعدة جماهيرية مخلصة ليس في بريطانيا وحدها، بل أيضاً في مختلف أنحاء العالم. ولا شكّ في أن «المؤسسة» تعلّمت من إخفاقها الأشهر عندما كشفت ردود فعل السلالة الأوليّة غير المكترثة والمتسمة بالبرود القاسي على وفاة الأميرة المتمردة ديانا سبينسر، ما أثار وقتها موجة كراهيّة عريضة للملكيّة، سيّما في أوساط الطبقة العاملة. كذلك عندما كُشف عن العلاقة المشبوهة لدوق يورك الأمير أندرو ويندسور، مع صديقه القوّاد الدّولي المدان جيفري إبشتاين وتالياً المقابلة التلفزيونية الكارثيّة التي أدلى بها لبرنامج نيوزنايت على BBC في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019.
قدّمت مقابلة وينفري الثنائي بصورة مماثلة لمقابلة الأميرة ديانا مع مارتن بشير في عام 1995


كل ذلك يقودنا إلى الحكاية الأحدث عن الأمير هاري وندسور (نجل الأمير تشارلز من الراحلة ديانا)، حامل لقب دوق ساسكس، وزوجته الممثّلة الأميركية المختلطة عرقياً الدّوقة ميغان ماركل اللذَين لن يستمرا كـ «أعضاء عاملين» في العائلة المالكة وفق قرار «المؤسسة» قبل أسابيع قليلة. القرار اتّخذ بعد مراجعة استمرت 12 شهراً لموقف الزّوجين، كما عرضاه في اجتماع سريّ عاصف لأبناء السلالة عُقد في قصر العطلات الملكي في ساندرينغهام، شمال شرق لندن، في شباط (فبراير) العام الماضي.
كان الأمير هاري بترتيبه السادس في خط العرش (موقع أشبه ما يكون بحلم إبليس بالجنّة لنيل لقب الملك ما لم تحدث عجائب ومعجزات إلهيّة) وزوجته الأميركيّة ميغان، قالا بأنهما يريدان التخلّي عن «الواجبات» الملكية، التي يفترض أن تكون وظيفة مدى الحياة، وأنّهما ينويان نقل إقامتهما الرئيسيّة إلى الولايات المتحدة (كاليفورنيا). ونقلت الصّحف وقتها عنهما القول بأنّهما «بعد أشهر من التفكير والمُناقشات الدّاخلية، يريدان اشتقاق دور جديد لهما تدريجاً داخل مؤسسة النظام الملكي بحيث يكونان مستقلّين ماديّاً»، من دون الإفصاح حينها عن طبيعة ذلك الدّور أو مصدر دخلهما إن هما تخليا عن المخصّصات الملكيّة وامتيازاتها. الزّوجان السعيدان أطلقا لاحقاً مؤسسة خيرية «غير ربحية» في بيفرلي هيلز على غرار تلك التي يديرها بيل وميليندا غيتس، حيث يمكن للأفراد من فاحشي الثراء إرضاء سيكولوجيتهم المنحرفة والتظاهر بعمل الخير عبر التّبرع بسخاء لمثل تلك المؤسسات من الأموال التي ستخصم من الضرائب المستحقة للخزينة العاّمة، أي أنهما يتبرعان فعلياً بأموال الشعب. كذلك، أبرم الزوجان عقوداً بمبالغ فلكيّة مع نتفليكس وسبوتفاي: الأول لإنتاج سلسلة من الأفلام الوثائقية، والثاني لإطلاق بودكاست لهما على التّطبيق (قُدّمت منه بالفعل حلقة واحدة فقط في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي). لكن تلك التصريحات والأنشطة جميعها تمت بدون تنسيق مسبق مع المؤسسة الملكيّة. ووفقاً لتقارير صحافيّة متقاطعة، فإن الملكة شعرت نتيجتها ومعها أفراد آخرون من سلالة ويندسور، بـ «الفزع» و«الغضب» و«خيبة الأمل» و«الأذى المعنوي».
ويبدو أن دوق ودوقة ساسكس كانا يأملان في التّوصل إلى اتفاق حل وسط مع المؤسسة بحيث يسمح لهما بالإقامة في الخارج وتجنّب المهام الشرفيّة الرسميّة مع الاحتفاظ بجميع الامتيازات التي يضمنها الدّم الأزرق، بما في ذلك التجوّل عالميّاً تحت علم النظام الملكي وعلى حساب الحكومة البريطانيّة وفي حمايتها. لكن المؤسسة قررت أن ذلك غير ممكن، ومن شأنه تشويه العلامة التجارية أكثر من اللازم، وأبلغتهما بـ «فصلهما من الخدمة» عبر بيان رسمي قالت فيه «إن قرار الزّوجين الابتعاد عن أعمال العائلة المالكة يعني ترك المسؤوليات والواجبات التي تأتي مع حياة الخدمة العامة». وبناءً عليه، لم يعد الدوق والدوقة معنيين بإدارة أملاك السلالة وأعمالها التجاريّة، وسوف يتم تجريدهما من تعييناتهما العسكرية والمدنيّة الفخرية الكثيرة. وبالنسبة إلى الدوق، فإن ذلك يعني قائمة طويلة تشمل مشاة البحرية الملكية، سلاح الجو الملكي، البحرية الملكية، اتحاد كرة القدم للركبي، والمسرح الوطني الملكي. وستفقد ميغان أيضاً رعايتها للمسرح الوطني الملكيّ ولرابطة جامعات الكومنولث. كما سيتعين عليها التّخلي عن دورها كنائبة - لزوجها - رئيس وقفيّة الكومنولث. وكجائزة ترضية، سيُسمح للزوجين بالاحتفاظ بلقبي «دوق ودوقة ساسكس». وربمّا لا تشعر ميغان بكثير من المرارة لخسارة رعاياتها الفخريّة، لكن هاري تحديداً لا بدّ من أنّه يشعر بالإهانة، ولا سيّما بعد إظهاره اهتماماً غير مسبوق للاستمرار برعاية القطاعات العسكريّة وهو الذي أدّى عشر سنوات في سلك الخدمة في القوات المسلحة البريطانيّة.
وفي بيان عاجل رداً على فصلهما من الخدمة، قال الزوجان بشيء من التهكم: «يمكننا جميعاً أن نعيش حياة خدمة. الخدمة مبدأ عالمي»، ما أثار اتهامات من مسؤولي القصر بأنهما يقلّلان من احترام الملكة، وفقاً لصحافيين من ذوي المصادر الموثوقة. وهكذا يبدو أننا سنشهد مبارزة علنيّة بين البيتين ويندسور وساسكس. لقد أُشهرت السّكاكين الطويلة.
الرّد الملكي جاء سريعاً في الثالث من آذار (مارس) الحالي، من خلال جريدة الـ «تايمز» اللندنيّة العريقة التي تُعتبر الناطقة باسم بريطانيا الرسمية. نشرت الجريدة ثلاث قصص دفعة واحدة عن فترة إقامة ميغان داخل القصر تضمنت في إطار سلة من الإشارات السلبيّة ادّعاءين من الوزن الثقيل: الأوّل أن ميغان روّعت موظفيها وتنمّرت عليهم وتقصّدت إذلالهم في مناسبات عدّة كادت على إثرها أن «تواجه شكوى رسميّة تقدّم بها أحد أقرب مستشاريها خلال فترة عملها في قصر كنسينغتون إلى الموارد البشريّة بسبب تنمّرها عليه»، وأن تلك الشكوى جُمّدت بعد نصائح للمشتكي بتجنّب عاصفة. أمّا الادعاء الآخر، فيشير إلى أنها كانت ترتدي زوجاً من الأقراط الألماسية الثمينة التي تلقّتها كهدية زفاف من محمد بن سلمان، ولي عهد مملكة آل سعود، بعد ثلاثة أسابيع فقط من تصفية جمال خاشقجي في مقر قنصلية السعوديّة في إسطنبول. حادثة وصفتها المخابرات الأميركيّة والتركيّة بالعملية البشعة التي تمت بموافقة شخصية من ابن سلمان.

بدون كسر النظام القائم، سيتعيّن على الطبقة العاملة البريطانيّة الاستمرار بقبول حكم الأثرياء


وقد سارعت متحدثة باسم دوقة ساسكس إلى النفي بشكل قاطع لمجمل المزاعم الواردة في مقال الـ «تايمز»، قائلة إن ميغان «شعرت بالحزن لهذا الهجوم الأخير على شخصها، ولا سيما بوصفها كانت هي ذاتها هدفاً دائماً للتنمّر، وهي ملتزمة بشدة بدعم أولئك الذين عانوا من الألم والصدمات». ونُقل عن محامين للدّوقة ما يفهم منه أن «قصر باكنغهام – القصر الرسميّ للملكيّة - يستخدم جريدة الـ «تايمز» لترويج رواية كاذبة تماماً». أما بشأن الأقراط السعوديّة، فقد قالت المتحدثة بأن ميغان «استعملت الأقراط، التي تعدّ ملكاً للتاج البريطانيّ من الناحية التقنيّة، من دون أدنى علم لديها بتورّط محمّد بن سلمان في تصفية الخاشقجي». وبغضّ النّظر عن التفاصيل، فإنه من الجليّ أن الدوق والدوقة كانا في حرب غير معلنة مع الحاشية الملكيّة وموظفي القصر، وأنّ الودّ تجاههما هناك كان مفقوداً بشكل واضح. ويعلّق خبثاء في لندن بسخريّة على فقدان معقل العنصريّة البيضاء الأرفع صوابه تجاه عنجهيّة ميغان، الأفرو أميركية، وإصدارها الأوامر بلهجتها الأميركيّة المعتدّة بنفسها، ولا سيّما أنه من الواضح أنها فرضت بالفعل سيطرة تامّة على زوجها، وجعلته كخاتم في إصبعها، وفق نميمة الصحف الصفراء. وقد نفى قصر باكنغهام رسميّاً أي علاقة له بقصص الـ«تايمز». وربما يكون ذلك صحيحاً بشكل ما لأن الملكة عادة تفضل تجنّب الجدالات العامّة. بل اشتكى أحد المصادر التي تحدثت إلى الجريدة من «تقاعس السلالة عن فعل شيء بينما كانوا يعرفون تماماً أن لديهم وضعاً داخل القصر يتعرّض فيه الموظفون، ولا سيما الشابات، للتنمر إلى درجة البكاء من قبل ميغان»، مشيراً إلى أن «المؤسسة أخذت صف دوقة ساسكس باستمرار». لكن بالطبع لا بدّ من أن مستوى رفيعاً ما داخل القصر وافق على نشر مادة الـ «تايمز» التي كانت بمثابة إعلان حرب على هاري وميغان، لا أقلّ. والحقيقة، وفق مطلعين على دواخل القصر أنّ السلطة المركزية في القصر ضعفت منذ أن طرد المقربون من الأمير تشارلز السكرتير الخاص للملكة السير كريستوفر غايدت في عام 2017. فالملكة في الـ 95 من عمرها بينما بقية أفراد العائلة يقومون على نحو متزايد بأنشطتهم الخاصّة، والخلاف أصبح سيّد الموقف داخل العائلة، وينعدم الانضباط، «فكل شيء يتسرب، ثم ينخرط الجميع في الشتائم والصراخ، ويلوم بعضُهم بعضاً» وفق أحد المساعدين. لم تعد كلمة «القصر» في أيّ حال تشير إلى جهة واحدة، فهناك في الواقع مكاتب ملكية متعددة: قصر باكنغهام، الذي هو مكتب الملكة؛ كلارنس هاوس، وهو مكتب الأمير تشارلز؛ وقصر كنسينغتون، الذي كان مقراً مشتركاً لكل الأمراء وزوجاتهم، لكنّه تحوّل حالياً إلى مكتب للثنائي ويليام (شقيق هاري) وزوجته كيت. ولكل من هذه المكاتب، رغم تواصلها الرسمي، أجندة خفية من المصالح والأولويات الخاصة بأصحابها.
النقلة التالية جاءت سريعاً من خلال المقابلة التي أجراها هاري وميغان مع أوبرا وينفري، مقابل ثروة صغيرة بالتأكيد (بثّت في الولايات المتحدة مساء الأحد السابع من آذار/ مارس) على شبكة تلفزيون «سي. بي. أس»، ومساء أمس في بريطانيا على قناة «آي تي في» التي يملكها قطاع خاص). ومن الواضح أن المقابلة التي استمّرت لساعتين، صُممت بدّقة بالغة وسُجلت قبل وقت كاف لتعديلها عند الحاجة، وتمّ تقديم الزّوجين فيها بصورة تستعطف شفقة الجمهور تماماً بالصيغة التي جاءت عليها مقابلة الأميرة ديانا مع مارتن بشير في علم 1995 ولعبت فيها الرّاحلة بذكاء شديد ومكر دور الضحيّة. ميغان الممثلة بحكم المهنة، قالت لوينفري بمرارة مطلقةً النار على النظام الملكيّ مباشرة «لا أعرف كيف يُتوقع بعد كل هذا الوقت أن نبقى صامتين إذا كان ثمّة دور نشط تلعبه المؤسسة في إطلاق الأكاذيب حولنا». وعندما ألمحت وينفري إلى احتمال أن قول الحقيقة قد يكلّفهما الكثير، أجابت: «وإذا كان ذلك يأتي مع خطر فقدان الأشياء، فقد فقدنا الكثير بالفعل». وقد حاول هاري بسذاجة التسلّق على حكاية والدته الراحلة عبر قوله: «أنا مرتاح وسعيد حقاً بالجلوس هنا أتحدث إليك وزوجتي إلى جانبي، لأنني لا أستطيع أن أتخيل كيف كان الأمر بالنسبة إليها (أي والدته الأميرة ديانا) وهي تمر بهذه المأساة نفسها قبل كل تلك السنوات، لأنه كان أمراً صعباً بشكل لا يصدق علينا نحن الاثنين».
وبالطبع، فإن الظهور في برنامج أوبرا وينفري مؤثر ويصل إلى قاعدة عريضة من المشاهدين على جانبي الأطلسي، ولا سيّما أنّه يسمح لطرف واحد فقط بتقديم روايته من دون وجود الطرف الآخر للتعليق. لكن قيمة المقابلة ستتضاءل سريعاً من ذاكرة الناس، إذ أن جمهور التلفزيون يملّ بدون حلقات متتابعة، وهو سينتقل بعد وقت وجيز إلى مسلسل دراما آخر يتابعه، بينما، بظهورهما العابر، فإن الدوق والدوقة حرقا بشكل كليّ ونهائيّ تقريباً أيّ جسور قد تكون تبقّت لهما مع بيت ويندسور.
وهكذا يبدو أن هاري وميغان أساءا الرهان، وفقدا إلى الأبد امتيازات يتمتّع بها أفراد عددهم محدود جداً في العالم. منذ الآن، سيتعيّن عليهما التفكير بطرق مبدعة لجني المال الوفير اللازم لإدامة نظام حياتهما الباذخ، ربما من خلال المزيد من هذه المقابلات البائسة مع وينفري، جارتهما في جنوب كاليفورنيا، والتي لا تزيد عن كونها مجرّد انتقام مهلهل بلا أفق. ويقول أحد الخبراء في صناعة الإعلام بأنّ ذلك قد يكون غالباً عبر الإعلانات التجاريّة واستخدام وجهيهما في الترويج لماركات المنتجات الاستهلاكيّة: ربما معاجين الأسنان، أو مساحيق الغسيل، أو آي فون جديد - أو حتى الزبدة كما سخرت منهما إحدى الصحف - وما شابه. يا لها من نهاية سيئة لحقت بأفراد سلالة ملكيّة حتى من دون الإطاحة بهما خلال ثورة شعبيّة.
النّظام الملكيّ في المقابل يبدو أقدر على تجاوز آثار المبارزة سريعاً. وهو بالفعل نجا من عاصفة ديانا سبنسر الأشد بما لا يقاس خلال عقد التسعينيّات، والأهم أنّه يظلّ في آن بمثابة ضمانة دستوريّة لديمومة هيمنة تحالف البرجوازية/ الأرستقراطيّة الحاكم على النظام السياسيّ في البلاد، وبخاصة في أوقات الأزمات السياسية والدستورية عندما يتسنّى للجالس على العرش أن يمارس سلطة سياسية حاسمة. ففي بريطانيا، لا يكفي لكي يصبح المرء رئيساً للوزراء أن يكون قائد الحزب الأكثر حصولاً على المقاعد في البرلمان، بل ينبغي له أيضاً الحصول على موافقة شاغل العرش الذي يملك نوعاً من حق النقض من بوابة عدم الثقة في قدرة الشخص على نيل ثقة مجلس العموم (النوّاب). لكن هل يعتقد أحد بجدية أن جيريمي كوربين مثلاً، حتى لو فاز في الانتخابات العامة لعام 2019 بأغلبية مريحة، كان ليحظى بثقة الملكة لتشكيل الحكومة؟ لقد صُممت هذه الضوابط والتوازنات والآليات الدّستورية تحديداً لعرقلة الديمقراطية الحقيقيّة وإحباط أي محاولة جديّة من غير ممثلي النّخبة الحاكمة لتولي مقاليد السّلطة.
بدون كسر هذا النظام الدستوريّ القائم، سيتعيّن على الطبقة العاملة البريطانيّة الاستمرار دائماً بقبول حكم الأثرياء، ومتابعة المزيد من سخافات ذوي الدّم الأزرق ضمن حلقات برنامج تلفزيون الواقع، بيت ويندسور، المستمرّة بلا أمل بنهاية قريبة، مهما تبدّلت وجوه الممثلين مع تقدّم الأحداث.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا