كان لورانس فرلنغيتي، الجندي في مشاة البحريَّة، يذرع شوارع ناغازاكي، وقد غدت أطلالاً، عقب إسقاط القوَّات الأميركيَّة القنبلة الذريَّة الثَّانية عليها، حين لمح كوب شاي من الخزف الياباني مسجَّى على الأرض، فانحنى كي يتملَّاه، فرأى إصبعاً بشريّة قد انصهرت ملتصقةً بالكوب؛ ثمَّة من كان يحتسي الشاي حين انفجرت القنبلة. في تلك اللحظة الرهيبة، ارتعدت فرائص فرلنغيتي واهتزَّت كينونته من أعماقها، فانقشعت الغشاوة التي خُتمَت على قلبه، كسائر جنود اليانكي، وتهدَّمت أمام عينيه صروح «المُثل العليا» التي ما ينفكّ «نظام العمّ سام يبنيها في الهواء، ولا يملّ من ترديدها، ليلَ نهارَ، على مسامع المخدوعين، في وسائل الإعلام الخاضعة، خضوع الحمل، لسلطة طُغمة حاكمة لا تعرف من تلك المُثل إلَّا بريقها الخدَّاع، الذي ما تبرح تذرّه، ذرَّ الرَّماد، في عيون الذين حبطت أعمالهم وهم يظنُّون أنَّهم يحسنون صُنعاً. في تلك اللَّحظة الإنسانيَّة الكبرى التي انكشفت فيها الحقيقة عارية أمام ناظرَيه، استيقظ ضمير فرلنغيتي على أهوال ما اقترفت بلاده، فيغدو «الشاعر الأناركيَّ» الذي لم يلبث يطرح على نفسه — منذ تلك البرهة الكونيَّة التي توقَّف فيها الزَّمن كي يغسل نَفْسه من أدران الوعي الزَّائف — وعلى الآخرين أيضاً، ذلك السؤال الجوهري الذي دارت عليه مصائر الكثيرين: ما جدوى الشعر؟ وما الذي يبتغيه الشعراء في عصرنا هذا؟ولكنَّ سؤاله الكبير، هذا، لم يكُن مجرَّد سؤال يُلقَى على عواهنه، هكذا، جُزافاً، بدون أن تكون ثمَّة إجابة لدى هذا الشَّاعر الذي أضحى العمود الفقري الذي قامت عليه، ومن حوله، الأسس الثقافيَّة لحركة أدبيَّة اضطلع بها جيل بأكمله من الشعراء والكتاب والمُغنِّين الشباب المتحمسين إلى تغيير العالم، والوقوف في وجه السُّلطة، أيِّ سُلطة، ولا سيِّما الكولونيالية المتوحِّشة وباطل أباطيلها الذي تتربَّع على عرشه أميركا التي خاطبها ألن غينسبيرغ، الناطق الرسمي «المُتوَّج» باسم ذلك الجيل — أحفاد وولت ويتمن — في إحدى قصائده، التي باتت «مانيفستو» الباحثين عن الحريَّة في أقصى حدودها، المدافعين عن حق البشرية جمعاء في العيش بسلام، بعيداً عن مخالب هذا الوحش الرأسمالي الذي لا يرحم: «اذهبي وضاجعي نَفْسَك مع قنبلتك النوويَّة». كانت إجابة فرلنغيتي على ذلك السؤال المصيريِّ، إجابةَ الذي ذاقَ، فعرف: «تكمن الطريق الوحيدة التي يستطيع فيها الشعراء تغيير العالم، في رفع مستوى الوعي الجماهيريِّ». وكذلك كان! فهو لم يدّخر جُهداً البتَّة، منذ تأسيسه دار «سيتي لايتس» (أو: «أضواء المدينة»، تيمُّناً باسم فيلم تشارلي تشابلن الذائع الصيت) ومكتبتها، في محاربة القيم الزائفة، والوقوف ضد الاستغلال السلطويِّ، وإماطة اللِّثام عن «الحقيقة»! ولا بُدَّ للشِّعر الذي يُريد أن يرفع من «مستوى الوعي» أن يكون متمرِّداً على الأعراف والتقاليد الرجعيَّة السائدة، لدرجة أنَّه قد خاطب الشعراء، في كتابه «الشِّعر بوصفه فنّاً ثوريّاً» (1975)، قائلًا لهم إنَّه «يشير إليهم عبر ألسنة اللَّهيب/ وبأنَّ العالم ينادي عليهم كي يُنقذوه». ولم يكن نداؤه، هذا، إلَّا تعبيراً عن صرخة برتولت بريخت (1898-1956)، الشاعر الألماني الثوريّ، الذي حُوكم في أميركا، حين اختيارها منفىً، في عام 1947، على «تصرفاته غير الأميركيَّة»؛ الصَّرخة التي كان فرلنغيتي قد وضعها «عتبة» دخوله إلى ديوانه هذا:
«أيُّ أزمنةٍ هذهِ
حينَ تغدو كتابةُ قصيدةٍ عن الحُبِّ
جريمةً أو تكادُ
لأنَّها تنطوي على كثيرِ صمتٍ
عن أهوالٍ كثيرة»
وكانت أولى المهام، التي اضطلع بها فرلنغيتي، كشاعر ثوريٍّ ضدَّ السُّلطة وأعراف النزعة المكارثيَّة الطاغية، قيامَه بنشر «عواء» ألن غينسبيرغ، فتعرَّض للتَّوقيف والسِّجن، بعد أن صادرت سلطات الجمارك نسخ القصيدة الـ 520، التي كانت قد طُبعَت في إنكلترا وشُحنت إلى أميركا، ومن ثم تعرضه إلى المحاكمة، في عام 1957، بسبب «الفُحش» الذي انطوت عليه هذه المجموعة، وفقَ «رؤية» المؤسسة الحاكمة. شغلت المحاكمة الأوساط الأدبيَّة والإعلاميَّة، حتَّى باتت واحدة من أشهر المحاكمات الأدبيَّة في التاريخ الأميركي، فدافع عن القصيدة في المحكمة تسعة خبراء متخصِّصين في الأدب، وناصر «الاتِّحاد الأميركي للحريَّات المدنيَّة» فرلنغيتي، ولكنَّ كليتن هورن، القاضي في محكمة كاليفورنيا العليا، فاجأ السُّلطة وقواها الرجعيَّة بإعلانه «براءة» فرلنغيتي من الترويج لـ «الرذيلة» معلناً في قرار تاريخي بأنَّ «القصيدة تنطوي على أهميَّة اجتماعيَّة»، فراج الكتاب، فاستوجب على «سيتي لايتس» أن تطبع 5000 نسخة لاستيفاء الطلب الذي تزايد عليها جرَّاء هذه المحاكمة.
ولولا حماسة فرلنغيتي لقصيدة غينسبيرغ، هذه، التي كان قد كتبها عشيَّة 17 أكتوبر 1954، في شقَّة صديقته شايلا وليامز، التي كان يعيش معها في تلك الأوقات، لما ذاع صيت غينسبيرغ (وأدب جيل بأكمله، من بعد ذلك) ولظلّ شعره حبيس المقاهي والملاهي الليليَّة والغرف المغلقة. لقد نفخ فرلنغيتي «نسَمة الحياة» في مسيرة غينسبيرغ الشعريَّة والمكانة المرموقة التي تبوَّأها لاحقاً في مدونة الشعر الأميركي المعاصر. ولم تكن تلك هي «نسمة الحياة» الوحيدة التي «نفخها» فرلنغيتي في الحياة الأدبيَّة الأميركيَّة، فقد تبنَّى نشر معظم نتاج شعراء سوف يغدون في أوقات لاحقة من أبرز شعراء أميركا، من أمثال كينيث ريكسروث، وكينيث باتشن، ووليام كارلوس وليامز، ودنيس لاڨرتوڨ، في «سلسلة شعراء الجيب» التي افتتحها بنشر مجموعته الشعريَّة الأولى «صور من عالَم غابر» في عام 1955.
وذهب فرلنغيتي في «حماسته الثوريَّة» إلى أبعد من مجرَّد النِّضال بالكلمات، حين آزر فيديل كاسترو، فزار كوبا تضامناً مع الثورة، وألَّف قصيدته الشهيرة «ألف كلمة وجلة إلى فيديل كاسترو» في عام 1961، خاتماً إيَّاها بهذا المقطع المهيب:
«فيديل... يَا فيديل...
يمرُّ نعشُكَ
عبرَ أزقًّةٍ وشوارعَ لم تعرفها قطُّ
عبرَ اللَّيلِ والنَّهارِ، يا فيديل
واللَّيلكُ الباقي في صحنِ الدَّارِ يتفتَّحُ، يا فيديل
قَدْ تمَّتْ رحلتُكَ العبثيَّةُ
ولكنَّها لم تَتِّمّ بعدُ
وليستْ عبثيَّةً
أُكلِّلُكَ بعسلوجِ غاري»
بَيْدَ أنَّ فرلنغيتي قد أرسى، بديوانه الأشهر «كُوني آيلند العقل» (1958)، رفقةَ ديوان «عواء وقصائد أخرى» (1956) لألن غينسبيرغ (1926-1997)، ورواية «على الطريق» (1957) لجاك كيرواك (1922-1969)، ورواية «الغداء العاري» (1959) لوليام بوروز (1914-1997)، الدعائم الأساسيَّة التي نهضت عليها «بويطيقا» جيل «البيت» ذلك الجيل الثائر الذي فجَّر «الثورة الجنسيَّة»، على إيقاعات الجاز، في ستينيَّات القرن العشرين، وآمن بأنَّ ثقافة التَّغيير لا بُدَّ أن تقوم على «رفض القيم السرديَّة المعياريَّة، والدخول في فتوحات روحانيَّة، واستجلاء الدِّيانات الشرقيَّة وسبر أغوارها، ونبذ الماديَّة الاقتصاديَّة، والتصوير الواضح للشَّرط الإنسانيّ، وتجريب عقاقير الهلوسة، والحريَّة الجنسيَّة». حقَّق ديوان فرلنغيتي الصَّغير هذا (93 صفحة)، نجاحاً منقطع النَّظير، فطبعت منه، منذ نشره، نحو مليون نسخة، ما يجعله واحداً من أكثر كتب الشعر مبيعاً على مرِّ التَّاريخ.
وكان مصطلح الـ Beat قد ظهر في أثناء نقاش دار في عام 1948 بين جاك كيرواك وجون كليلن هولمز، حول القلق الوجودي والاغتراب، أو حول «النَّزعة البِيْيْتِيَّة» beatness، بحسب الصياغة التي وضعها كيرواك بنفسه. ثم ذاع المصطلح ليغدو مرادفاً للثقافة التي تتمتَّع بها الشبيبة المتمرِّدة التي تقرأ أشعارها على النَّاس في الشوارع والمقاهي والساحات العامَّة. تلك الشَّبيبة التي أخرجت الشِّعر من الغرف الصفيَّة الحجريَّة إلى الهواء الطَّلق، حيث الحريَّة بلا شروط أو قيود.
عاش فرلنغيتي يتيماً، فقبل أن يُولَد مات أبوه، الذي ينحدر من أصول إيطاليَّة، وبعد أن وُلِدَ أُدخِلتْ أُمُّه مصحَّة الأمراض العقليَّة، فعاش السنوات الخمس الأولى في كنف عمَّته إيميلي، في باريس، فكانت الفرنسيَّة هي اللّغةَ الأولى التي نطق بها، وبهذه اللغة، أيضاً، قدَّم ترجماته الفريدة للقارئ الأميركيِّ لطائفة مختارة من أشعار جاك بريڨير، ضمن الإصدار التَّاسع في «سلسلة شعراء الجيب» سنة 1958، بصورة على الغلاف، يظهر فيها بريڨير ينظر إلى صبيٍّ صغير يقف إلى جانبه ويُطعم فيلاً في حديقة الحيوان (رواية فرلنغيتي الأخيرة جاءت تحت عنوان «صبيٍّ صغير»!). لقد وجد في صوتِ بريڨير الخافت، و«كلماته» البسيطة التي خاطب بها الشَّبيبة الفرنسيَّة، عقب الحرب العالميَّة الثانية، الصَّوتَ المنشود الذي يستطيع، من خلاله، مخاطبة الشَّبيبة الأميركيَّة المتمرِّدة الساعية إلى تغيير العالم بـ «الكلمات».
وكان فرلنغيتي قد درس الصَّحافةَ في جامعة نورث كارولينا، ثم حصل على شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي من جامعة كولومبيا العريقة في عام 1947، وأكمل دراسة الدكتوراه في الأدب المقارن في جامعة السوربون في باريس بأطروحة أعدَّها عن المدينة بوصفها رمزاً في الشِّعر الحديث.
ومثلما تفتَّح وعيه، في أثناء سيره في شوارع ناغازاكي المتهدِّمة، فإنَّ سيَّارة عُمدة مدينة سان فرانسيسكو قد توقَّفتْ ذات يوم، في عام 1998 أثناء سير فرلنغيتي في أحد شوارع المدينة، فترجَّل منها العمدة، لإلقاء التحيَّة عليه، والطلب منه أن يكون «الشاعر الرَّسميَّ» للولاية، فلم يجد فرلنغيتي في نَفْسه الرَّغبة في أن يصدَّ الرَّجل على الرَّغم من أنَّه قد عاش معظم حياته ضدَّ «السُّلطة»، رافضاً لأيٍّ «منصبٍ» رسميّ. وظلَّ فرلنغيتي شاعرَ الولاية «المُتوَّج» سنتَيْن متواصلتَيْن، ثم نال في عام 2003 «جائزة روبرت فروست» المرموقة عن مجمل أعماله، وانتُخب عضواً في أكاديميَّة الفنون والآداب. ولكنَّه، على الرَّغم من التكريمات والجوائز العديدة التي نالها في حياته المديدة، إلَّا أنَّه لم يتخلَّ مرَّة عن «المُثل العليا» التي أفنى عمره يدافع عنها: ففي عام 2012، منحته «رابطة القلم» الهنغاريَّة «جائزةَ يانوس بانونيوس العالميَّة للشِّعر»، بَيْدَ أنَّه حين علم بأنَّ الحكومةَ الهنغاريَّة، تحت قيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، تُساهم في تمويل الجائزة، البالغة 50 ألف يورو، أعلنَ رفضه تسلّم الجائزة، لأنَّ هذه الحكومة اليمينيَّة المتطرِّفة تعتدي على الحريَّات المدنيَّة للشعب الهنغاريِّ وعلى حريَّته في التَّعبير.
مات فرلنغيتي الثَّائر يوم الإثنين الفائت، في الشقَّة المستأجرة التي يعيش فيها منذ أربعين عاماً، بعدما بدَّد في الحياة «مئةَ عامٍ وعاماً واحداً» عاش معظمها مثلما أراد لها أن تكون: مجرَّد حُلمٍ، على حَدِّ عبارة الشَّاعر الإسپاني كالديرون دي لا باركا (1600-1681) التي افتتح بها كتابَهُ الأخير، رواية «صبيّ صغير» التي نشرها في عام 2019، فهل كانت مجرَّد صُدفة أن تحمل آخر أعماله مثل هذا العنوان؟! فهو لم يكبر في أزقَّة مخيَّلته الشعريَّة البتَّة، بل ظلَّ ذلك «الصبيّ» الذي يطارد فراشات الأحلام من شارع إلى آخر، فالشعر كان بالنسبة إليه ذلك «الظلّ الذي تطرحهُ مخيَّلاتنا المضاءة بأنوار الشَّوارع»؛ عبارته الشهيرة التي نفشتها سلطات مدينة سان فرانسيسكو على لافتة تُزيِّنُ مدخل زقاق جاك كيرواك المحاذي لمكتبة «سيتي لايتس» التي كانت شاهدة على ولادة واحدة من أكثر الحركات الشعريَّة ثوريَّةً في القرن العشرين!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا