باريس | إذا أطلّ شخص عبر الشاشة يتحدث بنبرة استجدائية مُبالغ فيها، كأنما عن ابنته المُفضّلة التي غابت للمرة الأولى لتشترك في مُخيَّم، ثم يصاب بنوبة هستيرية تجعله يصرخ في محاوريه «اسكتوا.. اسكتوا!» فاعرف أنّه الفيلسوف آلان فينكلكروت (1949) يُسكت الجميع ليبكي وحده هوية فرنسا الضائعة، بعدما أصبحت بلداً متعدد الثقافات. اعرف أنك بحاجة لمن يعزيك لأن شخصاً واحداً قد يزيد العالم وحشة وكآبة وركوداً.
ولا عزاء بعدما أصبحت النخبة الفرنسية مكونة ممن أسمتهم مجلة «نوفيل أبرسرفاتور» بالرجعيين الجدد الذين عززوا صفوف اليمين الكلاسيكي المتطرف، وازدادوا ضراوة بعدما دخلت فرنسا سجالاً وطنياً حول إشكالات الهوية و«التعارض المشبوه بين معطى الوطن المهدد والهجرة المتربصة به». هذه النخبة التي يقودها «فلاسفة جدد» من طينة آلان فينكلكروت، وبرنار هنري ليفي، وأندري غلوكسمان، وألكسندر أدلير، وإليزابيت ليفي وآخرين يتمتعون بنجومية ثقافية وفكرية تجعلهم يصولون ويجولون في الإعلام الفرنسي ليردّدوا على مسامعنا بلا كلل: «الوضع أخطر مما نعتقد».
لا شكّ في أنّ الوضع أخطر مما نعتقد. عهد الخطابات الكبرى وزمن التحرر وعصر الأنوار ولّت، وها هو صاحب «هزيمة الفكر» (1987) يخلّد اسمه ويدخل «الأكاديمية الفرنسية» (أغلقت أبوابها أمام موليير وروسو) منذ الجولة الأولى في التصويت. يوم الخميس الماضي، احتل فينكلكروت مقعد سلفه فيليسيان مارسو، بعدما نال 16 صوتاً من أصل 28. وأضاف ثمانية أكاديميين علامة التقاطع السوداء X على بطاقة الانتخاب. علامة رمزية تدلّ على الرفض المطلق للمترشح، واتهموا فينكلكروت بأنه رجعي وساعٍ للتفرقة بين أبناء الدولة الفرنسية. وندد بعضهم بدخول «الجبهة الوطنية» المتطرفة إلى الأكاديمية: «تهانينا، لقد شارفنا على الحضيض، القليل من الجهد فقط ونصل».
وصف مرةً المنتخب الفرنسي
لكرة القدم بأنه أضحوكة أوروبا لأنّه «أسود. أسود. أسود»!


«أهدافي ليست سياسية، أنا أكتب لأكشف ما يتراءى لي كحقيقة». يصرّح فينكلكروت الذي ينتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين. هاجر والداه من بولندا هرباً من النازيين، تعلّم الفلسفة وعلّمها لمدّة 25 سنة في معهد الـ «بوليتكنيك»، وهو خرّيج متفوّق في دراسات الأدب الحديث ويعتقد جازماً أن الحقيقة ملازمة له دوماً، فيستعير نبرة النبي: «يؤلمني أن أرى الخطر محدقاً بالحضارة الأوروبية في حالتها الفرنسية. فرنسا اليوم في طور التحول إلى مجتمع ما بعد قومي متعدد الثقافات. ويبدو لي أنّ هذا التحول الهائل لن يثمر عن خير من أي نوع». ورغم أن هذا المفكر المتخصص في التهييج والصراخ وتوجيه الاتهام يستوطن وسائل الإعلام الفرنسية وبرنامج Répliques، الذي يقدمه في إذاعة «فرانس كولتور»، إلا أنه يشكو من عزلة المثقف «الشجاع» المُساء فهمه لاستدرار العطف كما فعل مع صحيفة «هآرتس الاسرائيلية» التي خصها بمقابلة طويلة تنطوي على قدر لا يستهان به من التوصيفات العنصرية. دعا يومها إلى اليقظة والتنبّه من «مدّ الهجرة الإسلاميّة وأخطارها على الوطن الفرنسي» إثر اندلاع أحداث العنف في الضواحي الفرنسية.
إنّ التمييز العنصري والإثني الذي يصيب المواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة يتعدى التعليم (تبدو المدرسة أبعد من أن تكون مهداً للمساواة كما يدعي قانون الجمهورية). ويتعدى مجالات التوظيف في الإدارات العامة والخاصة، ليصيب الإطار العمراني الخالي من أي حياة متوازنة. منذ عقود، أحياؤهم عرضة للامبالاة مؤسساتية، وتصحّر خدماتي مزر. ضد هذا الديكور الدال على الغبن وعدم الإنصاف، أضرمت شبيبة هذه الضواحي النار في أحيائها نهاية عام 2005. أما رد السلطات، فكان قمعاً وتهرباً ومراوغة بعد «أبلسة» الشباب وخلط المفاهيم مع الإرهاب والإسلام والتطرف. أخذ الشحن الإيديولوجي والإعلامي أبعاداً هوجاء مع الخبير في الخوف والتخويف آلان فينكلكروت. هو يرفض اختزال ما جرى في الضواحي الى مسألة اجتماعية، بل يفضل الحديث عن نزاع اثني ـ ديني. يستند هذا التشخيص الى ملاحظته أنّ معظم الشبان الذي ألهبوا الأحياء «الصعبة» هم من «السود والعرب المغاربة المتماهين مع الإسلام». وحتى حين قيل له إن رجال الشرطة والمربين لم يلحظوا وجود مطالب دينية، علاوة على مشاركة فرنسيين «أقحاح» في أعمال العنف، ساوى «الفيلسوف» بين نازيي المحرقة وبين فتيان ضواحي باريس. قال بأنّ «أفعالهم تلك ليست أقل من بوغروم بحقّ الجمهورية» وهم ضالعون في أعمال الشغب، يسلكون مسلك المنتفضين الفلسطينيين («على ما تعلمون جيداً في إسرائيل» قال متواطئاً لمحاورَيه في «هآرتس»)، «إنهم يُرسلون هم أيضاً إلى الواجهة صغار السن لأنه لا يمكن وضعهم في السجون حين يتم اعتقالهم». أما إذا كان قد زار تلك الأحياء التي يتحدث عنها، فأجاب بأنه شاهد الأخبار وقرأ الكتب والدراسات. لا حاجة به لمعاينة ما يحدث على أرض الواقع كي يخبرنا بالحقيقة! هو شبيه عمّ علاء الدين الشرير الذي يكفيه أن يلصق أذنه بأديم الأرض كي يتلصّص على عدوه عند المقلب الآخر من الأرض.
يذكر الفرنسيون جيداً يوم سخر فينكلكروت من المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم. وصفه بأنه أضحوكة أوروبا لأنه «أسود. أسود. أسود». وقال إنّ الاستعمار لم يكن كله عيوباً، بل أسهم في نشر الحضارة بين الشعوب «المتوحشة»، وبأنّه لا نستطيع أن نضع على قدم المساواة ما تعرّض له اليهود إبان الفترة النازية والفترة الاستعمارية: لا قياس بين ذلك ومسألة العبودية التي لم تكن جريمة! «لكننا في فرنسا، وبدلاً من محاربة معاداة السامية، نفعل تماماً ما يريده أعداء السامية. نقوم بتغيير مناهج تعليم التاريخ الاستعماري وتاريخ العبودية والرق في المدارس. تعليم التاريخ الاستعماري أصبح سلبياً بشكل حصري. لم نعد ندرّس كيف قدّم التربية والحضارة للمتوحشين.»
الكاتب الصهيوني الهوى يظلّ «ينق» بأنه غير محبوب، وغير مرحّب به، وغير مفهوم في حين أنه أكثر المثقفين إطلالاً على شاشات التلفزيون كما في الميديا، يدفع الممثلة جولييت بينوش إلى البكاء على الهواء مباشرة لأنها تجرأت على توقيع بيان للتضامن مع الشعب الفلسطيني! لو امتلك فينكلكروت تقنيات التحنيط الفرعوني لتحنيط فرنسا بأكملها، هو الذي يحن إلى الزمن الضائع، إلى فرنسا بالأبيض والأسود في البطاقات البريدية. كتابه الجديد «الهوية التعيسة» (راجع الكادر) القريب من أطروحة النقاء العرقي، لم يمنع صاحبه من أن ينضم إلى «مجمع الخالدين»، وينال المقعد الـ 21 في الأكاديمية العريقة. غير بعيد عنه، يشغل أمين معلوف المقعد 28، لعلّه يدعوه إلى أن ينفصل عن نفسه، ولو قليلاً كي يرى «الآخر كذات». لقد مللنا من الانغلاق المرضي والهويات القاتلة.




zoom | فخّ البُلهاء

في كتابه الجديد «الهوية التعيسة» (ستوك ــ 2013) المزيّن بقطار طويل من الاقتباسات، يفرد آلان فينكلكروت باباً كاملاً عن مكانة المرأة في المجتمع الفرنسي (المكانة التي أصبحت خراباً اليوم) وباباً آخر عن التعليم (أصبح مقبرة). وبأسلوب لا يخلو من حسّ أدبي رفيع ومنهج فلسفي- أخلاقي، يصل عبر استدلالات واستنتاجات معقّدة وغير بريئة إلى أن الهوية الفرنسية اليوم هي هوية تعيسة، بعدما استقبلت هويات أخرى أفسدت نقاءها. الفرنسيون «الأقحاح» أصبحوا أقلية في بلدهم، يخافون أن يتحولوا هم أنفسهم إلى «الآخر» : «في فرنسا تتمتع كل الهويات بحق المواطنة الا هوية الفرنسيين الأصليين. وهذا الوضع مخجل ومحرج. انقلبت الأمور رأساً على عقب. في ما مضى، كان السكان الأصليون فخورين بهويتهم وجذورهم. وكان المطلوب من الوافدين الجدد أن يصبحوا فرنسيي الهوية وأن يتصرفوا كفرنسيين، أما على أيامنا هذه، فيتم تشجيع المهاجرين على الحفاظ على هوياتهم السابقة ولغاتهم السابقة. وعلى الفرنسيين الأصليين أن يحاولوا البقاء غير مرئيين. شعب غير مرئي لا يتم الحديث عنه. شعب يواجه يومياً الحجاب والصوامع وأسواق اللحم الحلال على أرضه وفي شوارعه». شعب يتساءل «أين نعيش؟» أليس هذا مؤشراً على وجود مرض في الهوية؟ لكن مهلاً؟ ما هي الهوية الفرنسية؟ يجيب فينكلكروت: «أعدت أخيراً قراءة كتاب للكاتب الروسي الجميل إيزاك بابيل. تجري أحداث القصة في باريس، حيث يقيم الرواي في فندق ويسمع ليلاً أصوات ممارسة الحب بين اثنين في الغرفة المجاورة. يكتب بابيل: ليس لهذا علاقة بما يسمعه المرء في روسيا ــ الأصوات هنا أكثر التهاباً. يقول له صاحبه الفرنسي: نحن الفرنسيين الذين خلقنا المرأة والأدب والطبخ، وما لأحد أن يسلبنا هذا».
هذه الكليشيهات يُعيد فينكلكروت استهلاكها في كل مرة يُتاح له القيام بذلك، ليُدين ما أسماه «العنصرية التي تطال البيض» والهجرة التي يراها غير قابلة للذوبان في الثقافة الفرنسية. المغالطة الجوهرية هنا، حين يتحدث عن الجاليات العربية أو المسلمة. يتناسى أن الغالبية العظمى منها هي من الأجيال الثانية والثالثة والرابعة. هم مولودون في فرنسا وليسوا بمهاجرين بالمعنى الذي كان ينطبق على آبائهم وأجدادهم. هؤلاء أيضاً حصلوا على الجنسية الفرنسية ويعيشون كمواطنين كاملي المواطنة. هل على هؤلاء أن يقدّموا صكوك انتماء لفينكلكروت؟ يقول رئيس تحرير جريدة ليبراسيون: «إن طرح مسألة الهوية الوطنية للنقاش، فخٌ للبلهاء».
أحلام...