لم يكن حسن فتحي (1900-1989) مجرّد اسم يُضاف إلى قائمة المعماريين العرب من حيث تحقيبات المعمار العربي الحديث والمعاصر. هذا الفنان المصري، يُشكّل اليوم علامة بارزة في تاريخ المعمار العربي الحديث، بسبب الإبدالات المفاهيمية والجمالية، التي رافقت أعماله الفنية منذ الربع الثاني من القرن العشرين، رغم أنّ هذه الأعمال تبقى «بسيطة» بالنظر إلى خصوصيات المعمار العربي اليوم والتغيّرات التي طاولته على مستوى الأشكال الفنية والمفاهيم الجمالية الأكثر ارتباطاً بفنون ما بعد الحداثة. لكن هذه التجارب الفنية، التي تبقى المعمارية العراقية زها حديد أكثر الممثلين لهذا الاتجاه الفني المعماري، داخل العالم العربي، بدت كأنّها تعمل على إعادة صياغة الموروث المعماري الغربي ومُحاولة تبيئة مفاهيمه وأشكاله، ولو أنّ براعة وجنون زها حديد بفتنة المادة وامتزاج المواد بين المحليّ والمُستورد ولولبية الأشكال، قادها إلى اجتراح نمط معماري مغاير حتى للمعمار الأوروبي. لكن تجربة فتحي نظراً إلى تاريخيّتها والسياق الذي برزت فيه، فإنّ «الما بعد حداثة» يبدو ضرباً من الفانتاستيك بالنسبة إلى معماري عاش وترعرع ودَرَسَ في مصر، فكان هذا المفهوم غير مُفكّر فيه آنذاك، حتى بعد ستينيات القرن الماضي مع ليوتار. حينها، لم يكُن هناك بالنسبة إلى حسن فتحي إمكانية التفكير معمارياً خارج القطر العربي، وإن كانت ملامح عمارته تنهل ضمنياً من ثقافات أخرى آسيوية، لكن ليس بالطريقة، التي تغدو فيها هذه الأشكال تُميّز أعماله المعمارية. إنّ الرهان على البيئة المصرية وسوسيولوجيا تفكيرها، كان الرهان الأكبر لدى حسن فتحي في اجتراح عمارة مصرية في الأساس. عمارةٌ حَلم بأن تكون جنّة للفقراء والمُهمّشين والمنكوبين القادمين من أرياف مصر. على هذا الأساس، يُنظر اليوم إلى أعمال حسن فتحي على أنّها أكثر من مجرّد أحجار وطوب وحصى، فهي تتنطّع بقوّة إلى أن تصبح عمارة «فاضلة» لا يقربها الشرّ ولا يدخلها إلاّ العاشقون لحياة البساطة والتجرّد من الماديات القاتلة. هذا المفهوم الفلسفي المُتمثّل في الأخلاق، يظلّ علامة مُميّزة في فلسفة فتحي المعمارية، فهو لا يبقي رؤيته تلك أسيرة تفكير فلسفي مجرّد، بل يحوّلها إلى مفردات بصرية تُؤسّس مفهوماً جديداً للعمل الفني على أرض الواقع. لكن ما علاقة الأخلاق بالمعمار؟ تتبدّى فلسفة فتحي وتأثره ضمنياً بالفلسفة السقراطية: العمل الفني لديه يتجاوز كونه مجرّد بناية معمارية، فهو شكل من أشكال المُقاومة والاحتجاج السياسي على الأنماط المعمارية الموجودة في مصر في ذلك الوقت، إذ إنّ البيروقراطية الإدارية وشركات المقاولات الرأسمالية الكبرى المُتوحّشة، ظلّتا تفرضان نوعاً من المعمار الهادف إلى بناء شقق صغيرة بأثمان مرتفعة، لا تُراعي دخل الإنسان العربي البسيط وخصوصيات البيت المصري الحديث وثقافته وذاكرته. من ثمّ، فإنّ فتحي وهو يُرمّم شروخ العبث بهذا المعمار، جاءت أعماله على شكل احتجاج سياسي مُضمر على طبيعة الحياة المصرية وما آل إليه معمارها منذ عشرينيات القرن المنصرم. فالاستعمار وقهره وسُلطته مع ذلك، لم تستطع التأثير بشكل أقوى في خصوصيات المعمار المصري، أمام هذه المقاولات، التي عملت على اكتساح كل الموروث الجمالي والمعماري داخل مصر. لهذا يُعتبر حسن فتحي، أنّه فَتَحَ قارة مجهولة داخل الاجتماع، إذ لا تمرّ عملية تشييد بناية جديدة أو ترميمها، حتى يتكاثر اللغو من لدن بعض المُؤسّسات المعمارية الساعية وراء الربح واستعباد الفرد المصري تحت الضرائب. لكنّها وجدت ضالتها الساحرة داخل المجتمع المصري، لأنّه شعر للمرة الأولى، بأنّه يعيش داخل معمار مصري حديث، لا هو تخلى عن ثقافته وذاكرته، ولا ظلّ يُقيم في ماضيه السحيق بطريقة فجّة.

مشروع قرية «القرنة» التي تعكس أسس كتابه «عمارة الفقراء»

هذه الازدواجية الآسرة في تجربة حسن فتحي، هي ما جعل القيّم الإسباني خوسيه تونو مارتينيز ينظّم معرض «حسن فتحي... ضدّ التيار» الذي يستمرّ حتى شهر أيار في «البيت العربي» في مدريد، كمُحاولة لإعادة تسليط الضوء على سيرة هذا المعماري الذي حقّق نهضة داخل المعمار العربي، وشغل معه الناس وكل العاملين في مجال الهندسة والتصميم، الذين يستحضرون دوماً تجربته داخل أعمالهم المعمارية، سواء من الناحية الفكرية لبعض أفكاره التي دونّها في كتابه «عمارة الفقراء» الذي أسّس عليه مشروعه المعماري، أم من خلال الاشتغال على نفس المَواد المحلية، التي سحرت فتحي بقيمتها وقدرتها على عدم التلاشي مقارنة بمواد البناء المُستوردة. المعرض جاء على شكل احتفاء بتجربته ومكانته، وليس مساءلة مسار تفكيره والسياقات التاريخية والجمالية، التي أسهمت في إفراز معمار بسيط، قويّ البنيان ذي نزعة تراثية وأشكال صافية ومواد محلية أكثر قرباً من حياة الفلاح المصري ومعرفته بها. يضمّ المعرض مجموعة من الصور والتخطيطات الهندسية المعمارية وبعض مؤلّفات فتحي الفنية، التي تضمّنت أفكاره ورؤيته حيال «عمارة الفقراء» كما حلم بها، وهو طالب كان ينوي الدخول إلى كلية الزراعة، لكنّ الظروف حالت دون ذلك، فدخل كلية العمارة، وهو لا يعلم أنّه سيغدو أحد أعلام العمارة العربيّة بالنظر إلى المجهودات التي قدّمها إلى العمارة المصرية الحديثة. بين الحداثة والتقليد، يقف حسن فتحي شامخاً. دخل غمار تجربة الحداثة المعمارية مع مفاهيم فنية ونظريات جمالية اخترقت وعي الفنّ العربي المعاصر منذ سبعينيات القرن العشرين. تماهى مع الجذور المحلية داخل الاجتماع المصري، وعمل على اجتراح مشروع معماري نابع من المُحيط، من دون استعارة أيّ نموذج عربي، قد يُشوّش على تناغم جماليّات المعمار وعلى طرق تفكير الفلاحين، الذين كانوا السبب الرئيس في استلهام هذا الشكل المعماري القريب منه وجدانياً، والسهل على مستوى الاشتغال والبناء، بحيث يُمكن لهؤلاء الفلاحين أن يبنوا هذا النموذج من ذواتهم وباستعمال مواد يصنّعونها بأنفسهم تُعمّر طويلاً، عوض مواد غريبة عن حياتهم ويومياتهم داخل الأرياف. لكن بالنظر إلى آراء وتصوّرات حسن فتحي ونجاعتها من عدمها في التأثير على واقع المعمار العربي اليوم، يبقى مشروعه كأنّه قريب من الحلم أكثر من الواقع، بسبب التغيّرات التي طاولت الخريطة الجيوسياسية المصرية وعدم قدرة هؤلاء الفلاحين على الاشتغال داخل أراضيهم الزراعية والانتقال صوب حياة المدن وأشكالها الحداثية.
إنّ هذه الصعوبات التي اعترضت تقدّم حسن فتحي في مواصلة مشروعه، حتى وإن بدا مُتشبثاً به كثيراً لغاية رحيله سنة 1989، تقف دوماً في وجه الكُتّاب والمُفكّرين على مستوى تأسيس أفكارهم على أرض الواقع. غالباً ما يجدون صعوبات في محاولة تطبيقها على أرض الواقع، ولا سيما داخل البلدان العربية، إمّا قد يصطدمون بقهر المجتمع أو تنكيل السُلطة السياسية. لكن عملية تحقيق ذلك لا ترتبط فقط بقوّة أفكار المُبدع وجزالتها، بل بالسياق التاريخي الذي تظهر فيه هذه الأفكار. لو كان حسن فتحي يعيش بيننا اليوم، هل كانت المُؤسّسات ستستجيب لمشروعه الفني أو حتى مناقشته، ثم بلورته على أرض الواقع، في الوقت الذي توحّش فيه كل شيء باسم الحداثة والتحديث والرأسمالية والبيروقراطية؟ نادراً ما يعثر المرء على فنّان مثل حسن فتحي، يُوازي في مساره الإبداعي بين الفكر والمُمارسة. وبما أنّ حسن فتحي من هؤلاء المعماريين العرب القلائل، الذي وفقوا في مسارهم الإبداعي، بين تجريد الأفكار وممارساتها الفنية، فإنّ ذكاءه قاده منذ بدايات حياته إلى عيش حياة مزدوجة، بين التفكير في المواد والأشكال والآليات وطرق تحقيقها، وبين إمكانية إخضاع هذه الأفكار لمختبر المفاهيم الجمالية على الواقع. إنّ الذي حدث في مشروع فتحي، هو أنّ الناس والمُؤسّسات احتفظوا بآرائه وأقواله في عمارة الفقراء، من دون أن يتحلوا بالجرأة على العمل بها وتسويغها وتثمينها. يبدأ التحديث في عمل فتحي من المادة وقدرته على اللعب بها وتكييفها بعضها مع بعض من دون أن يُخلّ بشروطها الوظيفية ومفعولها وتماشيها مع المواد الأخرى، عاملاً على إقصاء المواد الصلبة كالزجاج، والحفاظ على مواد محلية مُستمدّة من الأرض، سعياً لعدم ركوب قطار التحديث المُتمثّل في العمارة الغربية. هذه الفلسفة الصوفية من حيث أفكارها وروحانياتها بقدر ما تبدو جميلة وآسرة، تجعل الفرد كأنّه يعيش في عالم من اليوتوبيا، فإنّها من جهة أخرى ستبقى مجرّد أحلام على الورق، بسبب ما ألمَّ بالاجتماع المصري (وغيره) من تبدّلات لم يعُد بإمكانه الوقوف عند الجذور المُتمثّلة في المعمار التقليدي والتراث البصري القديم، بل الالتحاق بالحداثة وما تقترحه من مفاهيم معمارية جديدة على مستوى المواد والأشكال والتيجان والفضاءات الهندسية وجماليّاتها. مفاهيم بدأت تمتح منذ الثمانينيات القرن المنصرم من الفن المعاصر، الذي هو بدوره يمتح من مشاغل الإنسان اليومية ومن العابر والزائل، بخاصّة من المظاهر المادية للحضارة الإنسانية، التي تعمل العمارة المعاصرة على استكناه مجهولها بطرق قد لا يصدّها العقل، كما تتبدّى ملامحها في بعض المُدن الأسترالية والكندية. لكنّ بصمة فتحي على مستوى الأقواس والقباب ما زالت حاضرة في بعض أشكال العمارة العربيّة المعاصرة، التي تستند إلى جوهر الحضارة العربيّة الإسلامية ككل، وما ترمز إليه من روحانية وصفاء واهتمام بمواد الطوب واللعب على عنصر الضوء والظلّ، كأحد مُكوّنات هذه العمارة مع امتزاجها بالألوان الطبيعية المُزركشة، التي تمتح من الفنّ الإسلامي، الذي هو الآخر يجد صداها على مستوى تزاويقه في الفنّ الإغريقي والروماني. لكن أضيف إليها في فترات مُتباعدة من التاريخ الإسلامي عناصر فنية إسلامية (كغياب التجسيد) انطلاقاً من عملية التأثير والتأثّر بفنون البلاد التي فتحوها. لكن مسألة القباب والأقواس لدى حسن فتحي، لم تخرج في أساسها من مشروع «عمارة الفقراء» الذي دعا إلى الانخراط فيه، بحكم المواد المحلية المُستعملة وسهولة صناعتها وقدرة الفلاح المصري البسيط على شرائها.
اعتبر أنّ الحداثة موجودة أساساً في جذور المعمار المصري القديم


في مشروع قرية «القرنة»، حاول حسن فتحي تطبيق أسس كتابه «عمارة الفقراء»، إذ جرى تفريغ سكان القرنة القديمة، بعدما استفحلت قضية سرقة اللقى الأثرية في صفوف السكان، وجرى نقل الساكنة إلى قرية جديدة. سيكون فتحي المُخطّط الفني لهذه القرية الجديدة، التي لم ينسلخ فيها عن التراث المصري القديم، عاملاً على تشذيبه وإجراء بحوث مُطوّلة حول قيمة المواد الأولية والنقوش والأسباب، التي جعلت الإنسان المصري القديم يستخدمها، وأدّت إلى صمودها آلاف السنين، من دون أن تصيبها عوامل التخريب أو التعرية. ركّز فتحي على هذا المنطلق الفلسفي القوي في عدم الأخذ بمظاهر الحداثة المعمارية رغم اعتراض السكّان. واصل مشروعه المعماري، بغض النظر عن الانتقادات التي وُجهّت إليه منة جرّاء هذا النفي القسري لمفهوم الحداثة في المعمار المصري. حداثة لطالما اعتبرها موجودة في الأساس داخل جذور المعمار المصري القديم، لا داخل الانحطاط الغربي ومظاهره المُتشظّية، التي تُحاول المُؤسّسات فرضها عربياً بشكل من الأشكال، خاصّة بعد عمليات الاستيطان، التي تعرّضت لها الشعوب داخل البلاد العربية.

* «حسن فتحي... ضدّ التيار»: حتى منتصف شهر أيار ـــ «البيت العربي» في مدريد ـــhttps://en.casaarabe.es

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا