«الرجل المكتبة»، هكذا وصفه الناقد الأميركي جورج ستاينر. إنّه ألبيرتو مانغويل، الكاتب والموسوعي الأرجنتيني الذي كان قارئاً لبورخيس لمدة أربعة أعوام، وتحدث عن تلك التجربة في كتابه «مع بورخيس» (الصادرة ترجمته عن «دار الساقي» عام 2015). عمل ألبيرتو مانغويل أيضاً مديراً للمكتبة الوطنية في بوينس آيرس، حيث شغل منصب بورخيس نفسه، وعاش مثل رحّالة في طفولته بسبب عمل أبيه الدبلوماسي.عاش مانغويل في الأراضي المحتلة بين عامي 1948 و 1956 أثناء عمل والده كسفير للأرجنتين في «اسرائيل»، وما زالت فلسطين المحتلة تشغل باله كمثقف وإنسان، إذ عبّر مرة «أن لا أحد يتألم مثل الشعب الفلسطيني»، و«على المثقفين أن يتخذوا موقفاً حاسماً تجاه القضية». وبادر إلى إنشاء مكتبة وطنية فلسطينية أثناء توليه منصب مدير المكتبة الوطنية، لكن الأمر باء بالفشل بعد مراسلات مع شخصيّات مهمة في الحكومة الفلسطينية، فدعا أثناء زيارته لتونس العام الماضي الى السعي لأداء هذه المهمة، ما يسهم في خدمة القضية الفلسطينية.
يعيش مانغويل الآن في فرنسا حيث عيَّن مديراً لهيئة الفنون والآداب.
القراءة عالمه الواسع حيث نتلمس شغفه الكبير في تعريف الهوية من خلال الكتب، وفي الذهاب بعيداً نحو سؤال: من نحن؟ من خلال الإبحار داخل الكتب والقراءة. في كتابه «مدينة الكلمات» (دار الساقي ـ 2016)، يقدم مانغويل سرداً لبعض القصص والحكايات التي تصوغ فكرتنا عن ذاتنا، ويقترح أن نستمع إلى الكلمات التي يبثها الحالمون والشعراء والروائيون، فهي التي تحمل مفاتيح القلب البشري. وفي كتابه «فضول»، يبحر مانغويل في سؤال «لماذا؟» كمحفز لسؤالنا عن العالم. ويتقصى أسئلة أخرى عن وجودنا في هذا العالم مثل سؤال: لمَ يوجد الشر؟ ما الجمال؟ كيف تكوّننا اللغة؟ ما الذي يحدد هويتنا؟ ما مسؤوليتنا تجاه العالم؟ ويكرس كل فصل لمفكر أو عالم أو فنان جاعلاً من القراءة العالم الذي يحدد من نحن، وجاعلاً من الكتابة عن القراءة نقداً من نوع آخر، نقد يشبه السرد ويصبح رواية في أكثر من مرة، مثل روايته «ستيفنسون تحت أشجار النخيل» التي تحاكي أجواء رواية لويس ستيفنسون «دكتور جيكل ومستر هايد» التي تعالج فكرة التمازج بين الخير والشر. خلق ألبيرتو قريناً لستيفسون نفسه ليعاقبه من الترياق نفسه الذي أعدّه وخلق به الدكتور جيكل، معتمداً على الكثير من الوقائع في حياة روبرت ستيفسن. هنا دعوة إلى خلق من الكتاب أنفسهم شخصيات روائية مسؤولة عن مصائرها، كأنه اقتراح جمالي في إعادة قراءة الأدب من زاوية أخرى، فتمتزج الروايات بحياة كتابها.
وها هو ألبيرتو مانغويل يستمر في الكتابة عن الأدب بطريقته المحبّبة، فيذهب هذه المرة إلى سرد حكايات عن الشخصيات الأدبية المذهلة التي أثرت فيه في عالم الأدب في كتابه الذي صدر عن «دار الساقي» (2020 ـ ترجمة مالك سلمان). يكتب ألبيرتو في مقدمة كتابه «شخصيات مذهلة في عالم الأدب» أنه تعلم تجاربه في الحياة من تلك الشخصيات المتخيلة التي قابلها عبر قراءاته أكثر من تعلمه من وجهه المظلل في المرآة، على حدّ تعبيره. بسبب وظيفة والده الدبلوماسية، كانت تتبدل الغرف التي ينام فيها، والكلمات التي يسمعها من خلف الباب، لكن مكتبته بقيت على حالها، فقد كان يرتاح وهو يرى القصة القديمة نفسها ويشعر بالثبات. نلاحظ أننا هنا أمام شخصيات غادرت الكتب لتستمر في حياة طبيعية كالبشر، فيتحدث صاحب «تاريخ القراءة» عن أصدقائه ليحفزنا على معرفة لماذا اختارهم وكيف تركهم يغيّرون نظرته إلى الأشياء.
يتحدّث مانغويل عن مسيو بوفاري الذي يفتقر إلى الشغف والخيال


يبدأ مانغويل كتابه بمسيو بوفاري من رواية فلوبير «مدام بوفاري». يذكر لماذا يفتقر بوفاري إلى الخيال ويترك الآخرين يقرّرون عنه. ولكنه على المقلب الآخر، لا يفتقر إلى الشغف، فهو يحب زوجته، وبعد موتها، يراها في أحلامه. ويموت هو بعدها وهو جالس في مقعد الحديقة التي كانت إيما تعيش علاقاتها عليه. ربما كانت هذه الشخصية مثيرة لمانغويل بسبب تناقضاتها الغريبة. وها هي «أليس» تخرج إلينا بقصة يسردها مانغويل عن ولادتها. «فمن بين المعجزات التي تشكل علامات فارقة في تاريخ آدابنا، ليس هناك حدث أكثر إعجازاً من ولادة أليس»، يقول مانغويل. ويفسر السبب في اختياره لهذه الشخصية في أن عالم أليس هو عالمنا بالطبع، ليس بالمفهوم الرمزي المجرد، بل لأنّ «بلاد العجائب» هي ببساطة ذلك العالم المجنون، الذي نلقى أنفسنا فيه كل يوم بكل ما فيه من نعيم وجحيم ومطهر. وعلى غرارنا، تمتلك أليس سلاحاً واحداً هو اللغة. كما أن تساؤلاتها هي التي تستحضر جنون «بلاد العجائب» المتخفي. ونقرأ أيضاً عن «سيدي حميد بن جلي» الذي يعلن مانغويل أنه المؤلف الأصلي لدون كيشوت، وأن سرفانتس أخبرنا بوضوح لا لبس فيه أنه ليس أبو الكتاب لكنه أبوه بالتبنّي، حيث اشترى المخطوطة وطلب من مترجم أن يترجمها إلى الإسبانية. لكن القرّاء أبَوا أن يصدقوا ذلك على مدى قرون، إذ تبدو فكرة تأليف سرفانتس لكتابه في السجن أكثر صدقاً. ونتأمل كوازيمودو القادم من رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، فهو من بين الوجوه القبيحة التي تسكن كتبنا، وهو يحاول أن يحظى بحقوقه كالآخرين، وأن يتمتع بتعاقب الفصول. وهو يعرف أن جماله داخلي، وأن لا أحد يبذل أي جهد لرؤيته. ونقرأ أيضاً عن كويكوغ، صائد الحيتان في رواية «موبي ديك»، الذي يحمل على جلده علامات هيروغليفية، نقشها أحد حكماء جزيرته كوكوفوكو. ويشكل كويكوغ بشخصه لغزاً يستوجب الحل، فهو لا يعرف القراءة وتشكل النقوش على جلده، وهذا كاف لكي يحقق له السعادة في هذا العالم الذي يرى أنه شرير برمته.
شخصيات أخرى كثيرة مثل: ذات الرداء الأحمر، وليليث والجميلة النائمة وسينغ تشن وغيرها... يضعها ألبيرتو مانغويل أمامنا لنتأمل غرابتها ومدى انتمائها إلى عالمنا في الوقت نفسه. يؤكد لنا مانغويل أن لهذه الشخصيات القدرة على تشكيل حيواتنا، فلم تعد أبداً محصورة في الكتب.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا