تعالَ نفترض السيناريو التالي، «أوكايشن»؟
تخيّل نفسك في زيارة غافلة للماضي، قبل هذا اليوم بخمسة عشر عاماً تقريباً، وأنك عُدتَ تلميذاً يَحضر أحد صفوفه في الكليّة، أمامه مسألة على شاكلة امتحان معروضة على اللوح وعليه أن يحلّها: «لو أنت في المكتبة العامة وعليك أن تفتش عن الحُب، إلى أيّ قسمٍ تذهب تحديداً؟». اردع نفسك من الهلع وتريّث. كل الخيارات هنا بمثابة طرق متعددة تؤدي جميعها إلى روما. لو أنني مكانك واضطررت أن أعطي ما لديّ، لكنت اخترت زاوية النقد الأدبي، من دون ترددٍ أو تململٍ. وكنتُ سأفتح هلالين مضيفاً «وأعتقد أنني سأقع في غرام أمينة المكتبة، خصوصاً إذا كانت ترتدي نظارات سميكة» بدون أن أنسى واو العطف في البداية لكي يبقى احتمالي مفتوحاً. هذا جوابي حصراً، وسأبرّره لاحقاً، لكنني أشدد، هذا جوابي حصراً، فليس هنالك داع للغش، أو نسخ للإجابة.

المسألة هنا تنطوي على الفرادة، والجميع متساوون، بالمطلق، أمام هذه الفرضية. اطمئن، سننجح جميعنا في الإجابة وسنرسب لاحقاً في الامتحان، ذلك أن روما مزخرفة في الشكل وعاصفة كطواحينها في الداخل. هنالك من سيتوجّه نحو «ستاند» الاقتصاد، ويكتشف الحب في الماركسية ويراه أممياً، أو يقرأ نظرية «اليد الخفية» لسميث ويستنتج أن الحب هو قدرٌ حتمي، يتوارى في الدهاليز ويقرر من تلقاء نفسه، متى يحين وقته للظهور. وبالطبع، ستعجّ رفوف كتب المسرح بالوافدين، معتقدين أنه باقتفائهم الأثر الدرامي سيكتشفون خيمياء الحب والمناخ الملتهب المنوط بطقوس السوط وشعوذة الشموع في العتمة. هذا كلّه مشروع ومُحقّ، مثل حقنا الشرعي في حثنا على من اختار التوجّه إلى قسم السينما أن يطالب عنا جميعاً بتعويض هائل من هوليوود جرّاء صورة الشريكين السعيدين الوالهين التي رسّختها في الأذهان.
موس المرابط ـــ «أين الحبّ؟» (2019)

إذا توفّر هنالك جواب واحد مُطلق على سبب قدومك إلى الحياة، نكون قد اقتربنا خطوة واحدة من معرفة ماهية الحب تحديداً. لذلك، إن الاختيار الطوعي للشخص في تلك المكتبة وتفتيشه الحر في القسم الذي يريد، يدلان فقط على الشكل الذي منه يأخذ الحب إطاره. ما يهمنا هو ماذا يعني أن يكون الإنسان معشوقاً، وكيف يمكنه أن يكون عاشقاً، دون أن ننسى الطبيعة الملتوية للحَبكة، التي يمكن أن تكون نافذة دخول إلى عالم الحب وبوابة العبور منه في الوقت عينه، فإذا اجتمع قلبان معاً لمواجهة مسألة - حذار أن تكون عبثية العالم- يمكن أن يفترقا أمامها نفسها لاحقاً، وهكذا تعيد الحبكة خلق نفسها مع تعقيدات مضاعفة، مستدرجة معها اللغة، فالكلام سيناريو عفويّ مفتوح على التأويل والتضليل، ليقهقه لافوازييه في قبره عالياً ويكون قانونه «لا شيء يختفي، كل شيء يتحوّل» المنتصر الوحيد.
يلج النقد الأدبي في هذا الطيف. يستطيع في مقاربته أن يقدم أجوبة على تلك المسائل المطروحة ولو بنظريات، لكنها مدعّمة بحجج قادمة من السياق، فلا تأتي الافتراضات ناقصة. لا يمكن التحدث عن الحب من دون حصر الكلام عن القصة التي تنشب عنه، ومن هنا يتسلل النقد الأدبي إلى الظلال التي يعكسها الحب، متعاملاً معها كظاهرة، يرصد إيقاعها ويتوغّل في أحداثها بغية فهمها، وإلا تحول كل شيء إلى موقف مجرد، مماثل لطابع الحب باعتباره حالة غير مرئية.
أن تكون معشوقاً، يعني أن تشعر بالامتلاء، وهو نقيض النقص الذي يعتريك، مع عوز دائم للعشيق، متكلاً على ضخّه لك جرعات من القبل والدوبامين، فتكون عندئذ على علاقة ودية مع الحب وتطلب المزيد والمزيد من العطاء، من دون أن تقطع صلة الوصل مع الكابوس الكبير: العودة إلى سجيّتك، أو الهلع الفظيع من الغوص الموحش في الوحدة.
أما أن تكون عاشقاً، فمعناه أنك تحت الشُّبُهة. أن تعشق يعني أن تقتلع جزءاً من قلبك وتزيّنه بالورود، ظناً منك أنك تقدمه كهبة، وهذا إنكار آخر يتراءى لك وتتوهّمه، لأنك في الخفاء تعلم أن نيتك هي الاستحواذ على روح المعشوق في المقابل. أن تعشق، أو أن تكون عاشقاً، أي أن تذعن للعين التي تراقبك على الدوام، أن تُبقي عينيك مفتوحتين على الاحتمالات كافة، من الخيانة حتى الكعب العالي، وطريقك أمام الجنون سالكة، يعبّدها مرور الوقت.
والآن ماذا يندرج تحت العنوان الرئيسي يا ترى؟ الحبكة، ما يعني: الحب. بغضّ النظر عن الحركيّة التي يأخذها الحب، كقوّة مسعورة تتجه إلى مسار نهايتها، مثل كرة كبيرة من الثلج التي تتدحرج بسرعةٍ هائلة وتضرب عشوائياً كل ما يعتريها، وأن لا علة واضحة المعالم لتنبثق هذه الحركية الفاقدة للعقلانية منها، ليس الحب سوى مرادف للاغتراب. يُكرّس الحب نفسه على مبدأ الالتزام، فارضاً أخلاقيته بجزمٍ، ليتحوّل بسرعة إلى فعل. في كلامٍ منمّق أقول إلى وظيفة. أنتَ مضطر في حال كنت عاشقاً أو معشوقاً إلى مداعبة لطيفة قبل النوم، ورسالة نصية بعد النوم فقط لتؤكد أنك بخير. أنت مضطر لتبرير مزاجك المتعكّر لاستئصال تصوّر الآخر على أنه جزء من هذه الجلبة التي تصيبك وحدك، كي لا تجعله يشعر أنه متورط أو يتحمل أي ذنب في كل ما يصيبك. أنت في وظيفة ولديك دوام كامل مع وجوب الحضور أيام الآحاد بدون بدل أتعاب إضافية.
عندما تُحب، أنت تطلب من الآخر أن يكون، بالحد الأدنى كما تريده أن يكون، أو في أفضل الأحوال منصاعاً إلى الدور المحدد له، المفروض عليه، ليذعن بحريته ويصبح جزءاً من هذا الكادر الذي يحفظه، يطبعه، ويعرّف به مثلما تفعل الصورة الشمسية. وفي هذا الأمر، أعني في التشييء كرديف للاغتراب المرادف بدوره للحب، شبه بسيط مع الموعد الزمني المصادف لعيد الحب، المفروض من السوق ومن معجم السوق نفسه. تأتي هذه المناسبة المزيّفة المسماة فالنتاين في شهر التسوّق والتنزيلات الحاسمة، «أوكايجن» يلخّص غيابها كعطلة رسمية في روزنامة العولمة، قدسية الحب نفسه، «أوكايشن؟» * هذا لا يعني أن العامل ورب العمل تربطهما علاقة من السلب والاستغلال اللذين لا يعرفان الراحة فحسب، بل إن الزبدة المُبتغاة من الحب، هي ما ينتج عنه من منفعة وتشدّق إلى ظاهره؛ الإعلاء من شأن الهدايا والاحتفال على حساب الراحة والهدوء كحميمية مُجسّدة أو ضرورة قصوى للداخل.
يطالب عنا جميعاً بتعويض هائل من هوليوود جرّاء صورة الشريكين الوالهين التي رسّختها في الأذهان


*ملاحظة: لم يكن ١٤ شباط عطلة رسمية هنا في لبنان منذ خمسة عشر عاماً، بل تحوّل إلى هكذا، كمناسبة حداد بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق، عاشق الترويكا ومعشوقها.
بالرغم من كل ذلك، وفي حال أردت فعلاً القيام بزيارة غافلة للماضي، مستبدلاً خيالك بالذاكرة، فمن الممكن أن تجد سراً عالقاً بداخلك، متجذّراً، تخجل من بوحه لأحد، من قبيل أن حبّك الأوّل كان لمعلمة المدرسة التي كنت ترصدها وهي تكتب مسألة على شاكلة امتحان على اللوح. ليس هنالك ضير في ذلك. هذه أمور تحدث. الحب هو أحد هذه الأمور التي تحدث، مرهون للصدفة المحض، الحب: حبل غير مقصود.
ولكن من غير المستبعد أن يكون متعمّداً، ولو أن تاريخ صلاحيته ينتهي بسرعة في هذه الحالة، لكنه عرضة واردة. لا لزوم أن أذكّرك أننا في العصر الحديث، عصر السرعة والحلول الجاهزة، حيث يمكنك أن تجد الحب بينما تتناول الحساء عبر تطبيقات التكنولوجيا، أو أن تختار من تريد أن تحب على الكتالوغ، لكن لا تنسَ أن تحجز بوصلة تأمين لتؤمّن على دموعك المالحة لاحقاً. فهٍم الرومانطيقيون المعنى منذ قرنين، ولو بمبالغة سقيمة، أو باستعارات ثقيلة كجزمة محارب، أن الحب في الختام موجع أكثر من الخسارة في التداول التجاري. أما بداية الحب، فهي عُرضة منتشرة تحدث فجأة، تأويله لا يخلص، غامض وملتبس، ويبقى احتمالاً مفتوحاً على احتمالات لا تنتهي، مثل أنه عندما أنتهي من كتابة هذا النص، فمن المحتمل أن أغرم بإحداهن وأبدأ قصة وأستغني عن النقد الأدبي، وأجد أن كل ما كتبته هو هراء بهراء، ومن ثم أحزن، أحلّل، أنظّر وأجد عزائي مع بوب ديلان، وحيداً صادحاً: Don’t think twice its alright.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا