الرباط | حسناً فعلت «حلقة الفكر» في المغرب، التي يرأسها الباحث والأكاديمي جمال بوطيب، حين أعلنت أخيراً عن تنظيم جائزة أدبية جديدة تحمل اسم الشاعر المغربي الكبير محمد السرغيني (مواليد 1930). فالرجل يستحقّ في هذه اللحظة بالذات الكثير من الاحتفاء الرمزي، هو الذي تزعّم باكراً مشروع تحديث الشعر في المغرب وفتحه على أجناس أدبية وفنية أخرى، في زمن كان هذا الشعر غارقاً في التقليد. تشترط الجائزة أن يكون الشاعر المترشّح مغربياً أو عربياً مقيماً في المغرب، وألا تكون نصوص المجموعة المقترحة منشورة من قبل. ويبدو بالتالي أن الجائزة تستهدف الشباب في الأساس. وهذا التوجه ينسجم مع ما تميّز به السرغيني طوال حياته من ميل إلى تشجيع الشعراء الشباب وتأطير تجاربهم، سواء عبر التواصل المباشر معهم، أو عبر «محترف الشعر» في كلية الآداب التي كان يشتغل فيها أستاذاً جامعياً ورئيساً للمحترف الذي كان سبباً في ظهور العديد من الأسماء الشعرية في المغرب، خصوصاً الذين ولدوا في فاس أو درسوا فيها.
تنسجم الجائزة أيضاً مع جوهر المشروع الشعري عند السرغيني، فالجهة المنظّمة «حلقة الفكر» تعرف أن الكتابة الشعرية عند صاحب «جبل قاف» ظلت منذ بدايتها مبطّنَة بالفكر. فقد قاد السرغيني الشعر المغربي باكراً إلى أرض الفلسفة، محاولاً إخراجه من القفص الوجداني والوطني الذي ظل محاصراً فيه إلى حدود منتصف القرن الماضي.
لم يكن الجانب الفكري هو كل شيء في شعر السرغيني، فقد مكّنته ثقافته الشاسعة وتكوينه المزدوج العربي والأوروبي من الانفتاح على أجناس أدبية وفنية أخرى، أهمّها التشكيل، هو الذي عاش مفتوناً بالألوان، وحاملاً لثقافة تشكيلية رفيعة، فضلاً عن تقريبه المبكر للشعر المغربي من تخوم النثر والسرد والتقاطع أيضاً مع المسرح، والدخول بالكتابة الشعرية في أشكال تجريبية بدت لمعاصريه مغامرة صعبة. غير أن السرغيني عاش مفتتناً بالغموض، ومتجنّباً ما أمكن الكتابة المتاحة، التي تقدم أسرارها للقارئ منذ الوهلات الأولى.
وسواء كان هذا الافتتان بالغموض يخدم نصوص الشاعر أو يقع محطّ نقاش، فقد شكّل ملمحاً عاماً لتجربة السرغيني، وبالتالي صار نصّهُ فريداً ومميزاً لدى النقاد والقرّاء، وجليّاً في زحمة النصوص والتجارب الأخرى.
للسرغيني جذور نضالية قديمة انعكست على كتابته، فقد عاش مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب من جهة، وانخرط لاحقاً في نشاطات الحزب الشيوعي الفرنسي خلال دراسته في السوربون، حيث كان يوزع المناشير التي تدعو إلى تظاهرات تهمّ الطلبة القادمين من أفريقيا والعالم العربي. لكن ما حدث في ربيع براغ جعل الشاب ينسحب من كل الأوعية الإيديولوجية ويلجأ إلى الأدب باعتباره مشتركاً إنسانياً يدعو إلى الخير والقيم الجميلة، بعيداً عن كل تعصب فكري أو إثني. هذا اللجوء إلى الأدب سيتزامن مع مرحلة مهمة في تاريخ الكتابة عند السرغيني وعن مجايليه من المغاربة، وهي ما يمكن أن نسميها مرحلة «التصوّف الشعري». كان السرغيني يرى في التصوف عودة إلى الذات، ليس في سياق انطوائي، بل من أجل تأهيلها لمواجهة عالم ينحو كُليةً نحو المادة ويبتعد بالتدريج عن كل ما هو روحيّ. رأى السرغيني أيضاً أنّ ما عرفه الشعر عبر أطراف العالم من تحوّل وثورة، كان في الأساس على مستوى الشكل. لذلك وجد نفسه معنياً أكثر بالاشتغال على المضمون. فقارئ نصوص السرغيني سيجد نفسه بالضرورة في حاجة إلى مرجعيّة معرفية تتقاطع مع المعرفة التي أنتجت هذه النصوص. كان رهان الشاعر هو الوصول إلى كتابة ينفلت فيها الظاهر من ظاهريته، في تشابك واضح مع الفكر التجريدي في التشكيل. وقد سبق له أن أنجز دراسة مهمة يحاول من خلالها أن يرصد طرق قراءة اللوحة التجريدية، هو الذي كان صديقاً مقرّباً لأهم التجريديين المغاربة أمثال جيلالي الغرباوي، ومحمد المليحي، ومحمد شبعة، والمكّي مغارة ومحمد القاسمي وغيرهم.
جذور نضالية انعكست على كتابته، فقد عاش مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب، وانخرط لاحقاً في أنشطة الحزب الشيوعي الفرنسي


انتبه السرغيني باكراً إلى مسألة هدم الحدود بين الأجناس الأدبية. يمكن التوقف مثلا عند كتابه «وجدتك في هذا الأرخبيل» الذي يحار القارئ ومعه الناقد في تصنيفه والحسم في ما إذا كان روايةً أو نثراً مفتوحاً أو عملاً شعرياً.
أفاد السرغيني من لقائه المباشر مع أقطاب الحداثة الشعرية في العراق خلال دراسته في جامعة بغداد منتصف الخمسينيات، ولقائه أيضاً برموز الأدب الجديد في فرنسا حين كان يدرس في جامعة السوربون التي حصل منها على شهادة دكتوراه الدولة. بدأ الكتابة في مجلة «الأنيس» خلال الأربعينيات باسم مستعار هو محمد نسيم. وأصدر لاحقاً باسمه الصريح عدداً من الأعمال الأدبية والنقدية، من بينها: «ويكون إحراق أسمائه الآتية»، و«بحار جبل قاف»، و«الكائن السبئي»، و«أغنية القطار الشبح»، و«وجدتك في هذا الأرخبيل»، و«من فعل هذا بجماجمكم؟»، و«محاضرات في السيميولوجيا»، و«صلاح ستيتية، دراسة وترجمة». وبالإعلان عن الجائزة الجديدة التي تحمل اسمه، يتعيّن على الباحثين والدارسين للأدب المغربي، ومعهم المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، العودة إلى تجربة محمد السرغيني وإيلائها ما تستحق من اهتمام، والاحتفاء بشاعر رائد قدّم الكثير للشعر المغربي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا