«معموديّة شيطان» رواية للكاتبة رندلى منصور، الصادرة عن «دار الصحبة الثقافية للنشر الإلكتروني». رواية في عنوانها العام تنطلق من مبدأ قلب المقاييس، فبداية هي تتّجه إلى أن تكون كتاباً إلكترونياً، وفي ذلك حسمت اتّجاهها إلى مسايرة التجديد الواقع في حياتنا اليومية، فباتت القراءة الإلكترونية هي الغالبة. وفي قلبها للمقاييس نجده في العتبات النصّية، بدءاً من العنوان «معموديّة شيطان»، القائم على مبدأ التناقض، فكلمة المعموديّة لها دلالات مقدّسة، فهي في المفهوم المسيحي طقس يمثّل دخول الإنسان الحياة المسيحية، والشخص الذي يجري تعميده يصبح تابعاً للمسيح. واللافت أنّ هذه الكلمة جاءت في العنوان مضافة إلى كلمة الشيطان، وهنا تأتي الصدمة أو المفارقة التي تتولّد عند المتلقّي. وقد يقف مشدوهاً أو معترضاً أو غاضباً لهذا الترابط، وهو حقّ لكل متلقٍّ، لكنّ عليه قبل أن يكيل الاتهامات أن يرى ما هو الرابط بين المعمودية والشيطان. واستطاعت الكاتبة من خلال هذه الصدمة في العتبة العنوانيّة أن تحقّق وظائف العنوان التي أشار إليها جيرار جينت، فيذكر بأنّ العنوان مجموعة من العلامات اللّسانيّة يمكن أن توضع على رأس النص لتحدّده، وتدلّ على محتواه.ومن خلال هذا العنوان «معموديّة شيطان»، نستطيع القول إنّه حقّق وظيفتين من وظائف العنوان: الأولى هي الوظيفة الوصفيّة، والثانية هي الوظيفة الإغرائيّة. والوظيفة الوصفيّة للعنوان تسهم في وصف النصّ، والإشارة إلى موضوعه، وترتبط الوظيفة الوصفيّة بوظيفة الإيحاء، فكلّ عنوان له أسلوبه الخاص. ومن خلال هذا الإيحاء نكتشف قدرة القاصّ، لأنّه بهذا الإيحاء تبرز القصديّة من اختيار القاص، وهكذا أرادت القاصّة أن تثير أفق التوقّع الذي لا يتحقّق إلا داخل النصّ، وقد نجحت في ذلك عبر اختيارها لهذا العنوان، فلم يكن اختيارها وصفيّاً فقط إنّما تقصّدته وعنته.
أمّا الوظيفة الإغرائيّة، فهي تحثّ المتلقّي كي يخوض غمار النصّ، وتترك لديه فضاء من التساؤلات حول ماذا تودّ هذه الرواية أن تقول، ويمكن أن تترك له بياضات يتوقّف للتفكير وتعبئتها بما يناسب الفراغ التأويلي. وهذا ما يحدث معنا عندما نقرأ العنوان «معموديّة شيطان»، فهو علامة سيميائيّة تشدّ المتلقي، فتحثّه على القراءة ليكتشف مدلولات العلاقة بين النقيضين، بين المعموديّة بما فيها من قداسة وطهارة، والشيطان وما فيه من إثم ونجاسة.
والصورة من العتبات النصيّة التي اعتمدتها القاصّة، فأكملت الإيحاء الذي أعطاه العنوان، لكن حافظت على غموض تحديد جنوسة الشيطان، ما يزيد من التشويق، لنتبين هويّة هذا الشيطان الذي ربما كانت له صفة الطهارة والقداسة قبل أن يتحوّل إلى شيطان يبث ظلمه وسمومه. وقد قدّمت القاصّة في إهدائها إشارات دلاليّة تحيل إلى ما سيقرأه المتلقي في متن الرواية، فتهدي روايتها: «إلى كلّ من ترعرع في كنف الظّلم، وظنّ أنّه عائلة... إلى كلّ من ذُبحت طفولته على أعتاب الشهوات... إلى كلّ من اختصرت روحه هويّة ضائعة... السكوت في حرم الظّلم انتحار!»
الظّلم/ العائلة/ الطّفولة/ الشّهوات/ هوية ضائعة/ انتحار، كلمات مفتاحيّة يمكن من خلالها الولوج إلى ما قدّمته القاصّة في عملها هذا. بناء سردي يرسم معالم الظلم والفساد، وينفتح على عائلة سيّدة القصر «هلا» التي تحلم لابنتها «حلا» بزواج أسطوري ضخم حتى لو حرمها هذا قصة حبّها الطاهرة مع «جمال». وفي المقابل، نجد موقف سيّدة القصر الرافض لابنتها الثانية المحاميّة «ناي» التي تسمّيها البربريّة، ونلمح طيف ابنتها الثالثة «جنى» التي تحلم بما تسعى الأم إلى تحقيقه لابنتها «حلا». أما صورة الأب، فهي صورة غائبة حاضرة.
صورة غريبة لأم تقف من بناتها موقفاً لا يُشبه الأمومة، وتطرح الكاتبة تساؤلات: «غريب هو موقف السيدة هلا، لِم لا تأبه لنجاح ابنتها؟!! أكانت فعلاً مهتمة لموضوع حلا، وتخاف أن تتأثّر بما يمكن أن تسمع؟ أم أنّها لا تحبّ النجاح إلا لنفسها؟! أم أنّها تغار من ناي لأنّها لم تستطع قط السيطرة عليها كما تحرّك ابنتيها الأخريين؟! أم أنّ هناك سبباً خفيّاً وراء كلّ ذلك؟!».
المخدّرات، والقتل، وخطف الأطفال والاتجار بالأعضاء ومافيا المال والسلطة


تتطوّر الأحداث في الرواية لمعرفة السبب، وتؤدّي الشخصيات على ساحة الأحداث دورها، لتتّضح خيوط الواقع الذي ترسمه القاصّة رندلى، فيتبيّن لنا أنّ وراء هذا الغنى الفاحش، وتحقيق الحلم بزواج أسطوريّ لحلا من رفيق، ما هو إلا الخطوة الأولى من رسم معموديّة شيطان، فيكون الزوج السّاعي إلى تقديم زوجته فتاة عذراء إلى شهوة شيطان آخر. ومن وراء هذه الحكاية تتوالى مسألة بيع الأعضاء، والاتّجار بالأطفال، وتكون ناي حاملة راية الدفاع عن حقوق الطفولة ومسألة المتاجرة بالأعضاء، وتستطيع مع من معها الإضاءة على هذه القضية، فتصبح فريسة لمجموعة الشياطين التي تحاربها، وتبدأ المواجهة بخطف طفلين من الجمعية التي تهتم بها.
تتأزّم الأحداث لنصل في ختام الرواية إلى اكتشاف دور الأب الغائب، فيحضر ليكشف صورة الأم التي نسبت إليه بنات لسنَ منه، فيقرّر الانتقام. وفي حبكة الانتقام، تعرض الكاتبة قضايا إنسانيّة كبيرة منها المخدّرات، والقتل، وخطف الأطفال، ومافيا المال التي تتحكّم بالعالم، والصراع على قوى السلطة، ليتبيّن لنا كثرة الشياطين، وكيف يكون التّابع لها خاضعاً، يرتكب الجرائم والأهوال.
أقسى ما نراه في «معموديّة شيطان» صورة الأم والأب التي تخضع لسطوة المال، فتضيع الصورة النّقية الطّاهرة للأم، ونفقد صورة الأب العطوف والسّند الذي يحمي عائلته. نعم إنّ الرواية تكشف الصورة البشعة للنفس الإنسانيّة، وتجعل من الفساد المستشري صورة تجمع شياطين الأرض معاً.
وإذا كانت الرّواية تعالج قضية جوهريّة، فإنّ الكاتبة التمست في بنائها الفنيّ التّبادل بين السرد والحوار، مع غلبة الحوار فيها، ليكشف لنا عن الشخصيّات. وظهر الوصف ظهوراً خجولاً خصوصاً في تصوير مظاهر البذخ للإيقاع بطهارة النفوس الضعيفة.
«معموديّة شيطان» تصدمنا للوهلة الأولى لكنّها ترصد واقعاً مؤلماً، وتنقل صورة نخشى أن نظهرها إلى العلن لأنّها تخدش قيماً إنسانيّة وعلاقات أسريّة مهمة. ومن صدمة العنوان، يخرج المتلقي إلى صدمة أكبر عندما يواجه أعمال الشيطان الرابض في النفوس المريضة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا