«إن ضوابط الدين والأخلاق والعرف والقيم ليست ضوابطَ مطلقة كما يتوهّم ذوو النوايا الطيبة، بل هي ضوابط تتحكّم فيها معايير السلطة وعلاقات القوة في المجتمع » (نصر حامد أبو زيد ـــ «التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير»). في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، قام عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم بتقسيم المعتقدات الدينية، وتصنيفها بين مقدّس ومدنّس، وقد كان لهذا التقسيم الذي ذهب إليه دوركايم أثر عظيم ومباشر، ظهر لاحقاً في كل مجالات علوم الاجتماع، ولا سيما علم اجتماع الدين. وعلى الرّغم من أن هذا التقسيم كان الأداة الأساسية التي استخدمها دوركايم لإثبات نظرته إلى الدين بوصفه «حاملاً المقدّسَ»، وإلى المقدّس بوصفه «حافظاً النظامَ والتوازنَ الاجتماعيين»، غير أن هذا المفهوم قد يتسع ليشمل، ليس فقط المعتقدات الدينية، إنما سائر المعتقدات الاجتماعية والثقافية والتاريخية والفنية، وليعبّر، تالياً، عن كل قوة تواضعت الجماعات على إعطائها قيمة متعالية. هذه الرؤية المختلفة إلى المقدّس هي ما ذهب إليه، أو إلى ما يقاربه، أحد أهم منظّري الدراسات الدينية في القرن العشرين، الفيلسوف ومؤرخ الأديان الروماني ميرتشا إلياده، إذ خالف العلماء الذين استعملوا الأدوات النفسية/ الاجتماعية لفهم الدين، وذهب إلى تقسيم الحياة، بكلّها، إلى مستويين: المقدّس الأبدي، الواقع خارج الزمان والمكان، والذي لا قدرة للعلوم على فهمه بأدواتها التحليلية، والمدنّس العادي، المادي والمحصور في الزمان والمكان.

في القصيدة العربية
ليست ظاهرة تقديس المدنس/ تدنيس المقدس طارئة على القصيدة العربية، فالمتتبّع آثارَ توظيف طرفَي هذه المعادلة في اللعبة اللغوية الشعرية، قد يصل، بسهولة بالغة، إلى جذور لها منذ العصر الجاهلي، وأن يقع على حالات كثيرة من التمرد والرفض، والخروج على المواضعات العالية (المقدّسة).
فها هو امرؤ القيس يخالف كل تقاليد «كندة» ويسلك، في شعره وحياته، سيرة لاهية ماجنة فاحشة، لم تردعه تهديدات والده المستمرة، ولم تضبط جموحه مكانته الاجتماعية كابن للملك. وها هو طرفة بن العبد يهجر يتمه وبؤسه إلى حياة فيها من الحسّ الإنساني، والفلسفة الشعرية المتجاوزة ما قلّ أن تجده لدى غيره، وها هم الصعاليك يؤسسون لواحدة من أولى الحركات الثورية في الجزيرة العربية، سواء من الناحية الاجتماعية/ الاقتصادية، أو من الناحية الشعرية التي تخلّوا فيها عن الطلليّة التقليدية، كاسرين بذلك بنية القصيدة الجاهليّة. ومع التداخل الذي حصل لاحقاً بين الثقافة العربية وغيرها من ثقافات ذلك الزمن، استمر هذا السياق بالتراكم ولو ببطء، عبر نماذج كثيرة كالوليد بن يزيد في نهاية العصر الأموي، لتأخذ في العصر العباسي وما تلاه شكلاً تجاوز الحالات الفردية، إلى تيارات راحت تقلّص المسافة أكثر بين المقدّس العلوي (الإلهي) وبين المدنّس البشري، وصولاً إلى الاختراق الأكبر في تاريخ الشعر العربي الذي حصل مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وغيرهما، وتمثّل في الخروج الكامل على عمود الشعر (المقدّس)، إلى قصيدة عربية معاصرة جديدة، سواء في جانبها البنيويّ، أو في جوانبها الإيقاعيّة والتعبيريّة والرؤيويّة وغيرها.

من سلسلة «واقع مشوّه» للفنان السعودي فيصل سمرة (67× 150 سنتم - 2008)

ورغم تجذّر هذه التقنيّة (ليست تقنيّة أسلوبية بطبيعة الحال) في تاريخ القصيدة العربية، إلا أنها لم تخضع للدراسة الأكاديمية، ولم يُنظر إليها بشكل مستقل إلا أخيراً. ويعزو الباحث رائد الصبح في كتابه «تقديس المدنّس في الشعر العربي المعاصر» (المركز الثقافي للكتاب ـــ 2017) الغياب النقدي عن هذه الظاهرة، على الرغم من حضورها الكبير كممارسة إبداعية، إلى جملة من العوامل، منها تداخلها الظاهري مع ظواهر أسلوبية نالت الحظوة من التشريح والنقد، كالمفارقة والتضادّ والسخرية والتهكّم.
في كتابه، يدرس الصبح هذه الظاهرة وتمظهراتها في قصيدتَي «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» لأمل دنقل، و«المومس العمياء» لبدر شاكر السياب، وسأحاول في هذه المقالة أن أتتبع أثر هذه الظاهرة في نماذج أخرى لعدد من الشعراء اللبنانيين المعاصرين.

سليلُ العُقم
يدخل الشاعر والروائي اللبناني علي نسر، في قصيدته «سليل العقم» المنشورة أخيراً في مجلة «الحداثة»، قصة النبي إبراهيم من باب خلفي لحِظته حساسيته الشعرية العالية، ليفجرها من الداخل، معيداً تشكيل الرؤية إليها بطريقة مختلفة عن الرؤية الدينية التقليدية. ففيما يظهر «إبراهيم النصّي/ المقدّس» نبيّاً مؤمناً صابراً مضحّياً كواحد من «أولي العزم»، يظهر في القصيدة «إبراهيم الشعريّ» بصورة الحائر التائه عن إيجاد الجواب إلى الحدّ الذي تعجز فيه حتى المعجزة عن انتشاله من دوّامة القلق تلك...
«وضع اليدين وراء ظهر العمر
راح يقلّب الأوراق بين الآه والجدران
لم يجد الجواب
فكاد يبحرُ زورقاً متشظّياً في اللاجهات
ولم تعد نيرانه برداً عليه ولا سلاماً»
ثم تكاد تنتصر الأبوّة فيه على النبوّة، والعاطفة العالية على الطاعة المطلقة، فيلجأ إلى العلويّ المقدّس من موقعه الإنساني المدنّس مخاطباً الله بشيء من العتب المحبّب وهو المرتاب في نفسه (هل يوقظ إسماعيلَ أم يرمي وشاح منامه في رجفة النجمات)
كان ينظر نحو إسماعيل نظرة تائهٍ
نسي النبوّة لحظةً أو ربّما عنها تخلّى
نادى الإله صدى بكاءٍ: يا إلهي أين وعدك لي؟ عليَّ تجلَّ
... نطق السؤال بغصّة الإنسان
بين الصحو والنوم القليلْ
وعلى المقلب الآخر من هذه السردية الشعرية التي تتحرك في عالم مواز لعالم السردية الدينية، يقف الطفل إسماعيل محاولاً فهم هذا الموقف الغريب، فلا نراه يتفاعل بآلية كما فعل إسماعيل النصيّ في «يا أبت افعل ما تؤمر»، بل نراه وهو «يشتمّ رائحة الدماء، كأنه أنثى يفاجئها المخاض مبكراً» فيتعب ويسقط ويتساءل و
«...يحاول استنطاق والده
عن الأسرار في تنهيده المحروق
يأتيه الجواب بلا كلام»
بل ويظهر في بعض مقاطع القصيدة كالعاجز الضعيف المغلوب على أمره، حتى إنه عندما لجأ للشكوى من هذا الواقع المفروض عليه، لم تتجاوز شكواه حدود شفتَيه واكتفى ببعض المحاولات الداخلية الذاتية لطرح أسئلة راودته حول حقّه المسلوب في اختيار قدره، أو شرف التمرد الذي لم ينله واليقين الذي لم يبلغه.
ثم، وفي خضم هذا الانهمار النفسي وفي زحمة هذه التداعيات والاختلاجات الروحية، تبلغ اللحظة الدرامية في القصيدة ذروتها حيث تعمّد الشاعر كسر أفق التوقع لدى المتلقّي لهزّه في العمق تمهيداً لتسييل رسالة القصيدة ضمن السياق الشعري للقصة.
ضحك الصبيُّ... رأى ضعيفاً آخر يتحمّل الأعباء
حيث الله سرّح حبر معجزة
فكان الكبش بيرقها المرفرف
تحت مائدة العروش
ثم وفي اللحظة التي كادت الأمور تحسم فيها بأن يدفع إسماعيل فاتورة اختبار الولاء هذا، ظهر من اللامكان من هو أكثر ضعفاً منه، فتبدّلت الأدوار فجأة لتتحول حيرة الصبي إلى ابتسامة الـ «أوريكا» على وجهه الذي عادت الدماء إليه، وليتحول من ضعيف مغلوب على أمره إلى واحد من كبار اللعبة. وفي هذه الالتقاطة الشعرية إشارة إلى طبقيّة من نوع ما، مختلفة عن الفهم السائد، تتحرك بين خيوط القصة منذ النفَس الأول للإنسان الأول حتى اليوم.
ومن هذا الباب الخلفي، قام الشاعر بالتعامل مع القصة كلوحة البازل، ففكّكها قطعة قطعة، وحرّر إشارات النص من أبعاده الدينية وظروفه التاريخية وجرّد الشخصيات من ملامحها النصيَّة المتداولة، ليخلق بذلك قصة موازية حمّلها رؤيته للعالم والإنسان والقيم الكبرى، فنراه يخاطب الكبش كمن يحرضه على «المعصية»
يا كبش محرقة الكبار!
هل موتك المحتوم جبنٌ أم قرار؟
كيف ارتضيت الضعف دون تمرّد؟
كيف اتّخذت الموت أردية
وكيف سكبت في قدح الزمان
مدامع الجمر المخثّر في وريدك كي نعيش؟
ويتابع مقلّصاً المسافة أكثر وأكثر بين الشخصيات النصيّة المقدّسة في القصة الدينية وبين نُسخها المدنّسة في الرؤية الشعرية، فيصبّ في قالب الثنائي إبراهيم- إسماعيل كل قصص الطغيان والحروب والويلات وانتصارات الملوك التي تُبنى على جماجم البيادق وليصبّ في قالب الشاة كل نداءات الموجوعين والمظلومين والمسحوقين وضحايا الصراعات. فها هو يصور كيف يمكن لهزائم الضحايا أن تكون انتصاراً لغيرهم:
صار انهزامك نشوةً للعابرين على هوامش دفتر الأيام
أو نصراً يحقّقه زعيم نرجسيٌّ
أو تعاقره الجيوشْ...
...وإبراهيم مشّط شيب لحيته
وجرّ وليدَهُ كي يشرب الأنخابَ منتصراً
تجاوزه امتحان الله
فوق برودة الجمرات في عينيك
ثم يختم القصيدة بسؤال مفتوح يرميه بين يدي القارئ محرّضاً خياله وفاتحاً له الباب إلى مدى شعوري وشعريّ واسع
«هل تتغيّر الأقدار
هل سيموت إبراهيم وإسماعيل كي تحيا الكباشُ بلا جراحٍ
أو خدوش؟»

ما لم يقله الله
ضمن سياق متمايز عن كثير من شعراء جيله، لا تبدو هذه الظاهرة لحظويّةً في تجربة الشاعر كميل حمادة، بل تكاد تكون دائمة متواصلة، حتى تحولت نسقاً أو شبه نسق يشكّل ركناً أساسيّاً من أركان شخصيته الشعرية، حيث:
«تزاوج الله والشيطان في جسدي
كلٌّ يشدُّ إلى ما يبتغيه يدي»
فالشاعر القادم من بيئة تقليدية متديّنة في دائرتها الواسعة يحمل معه، على طول الطريق إلى القصيدة، ما يتيسّر له من أحجار الأسئلة ويرمي بها بين يدي القارئ، في محاولات متتالية لتعكير صفو بحيرات الأفكار والرؤى، ولا يجد حرجاً في أن تزيده هذه «الهرطقة» غربة واغتراباً، فيقول:
«أيها الشعر زدني اغتراباً
إن طينة الأنبياء «غريب»»
وككل ذات مبدعة تملك الإرادة والقدرة على المبادرة والتجديد والتجاوز، يبدأ حمادة مشواره باكراً، فلا ينتظر متون النصوص ليدلي بدلوه، بل يستغل كل مساحات البياض والهوامش الممكنة ليثبت رؤيته في بناءٍ يبدأ من عنونة مجموعاته الشعرية، وعناوين القصائد والإهداءات، وصولًا إلى القصائد، وما تحمله من رموز، وأقنعة، ومواقف، وصور تثير في المتلقي اختلاجات فكرية وحسيّة، تشكّل المعادل الموضوعي لانفعالات الشاعر لحظة الشعر.
يدرس رائد الصبح في «تقديس المدنّس في الشعر العربي المعاصر» هذه الظاهرة وتمظهراتها في قصيدتَي «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» لأمل دنقل، و«المومس العمياء» للسياب


بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى «ما لم يقله الله» الصادرة عن «دار أبعاد» عام 2017، ولعبة ثنائي السواد/ البياض في تصميم غلافها، وصولاً إلى مجموعته «يغني... في جبّته الماء» والتي أهداها «إلى الشاعر المنتظر»، ومروراً بمجموعته «النبي ما بعد الأخير» التي تحوّلت على الغلاف إلى «ما بعد النبيّ الأخير» في قصة طريفة تذكرنا بقصة قصيدة «طفولة نهد» لنزار قباني، وهي تتحول في مقالة لأنور المعداوي نُشرت في مجلة «الرسالة» (العدد الرقم 774) إلى «طفولة نهر» في تعبير جليّ عن كمّ القيود التي كانت تفرضها البيئة العربية، ولا تزال، على أجنحة الفعل الإبداعي غير التقليدي. في قصيدته «سأشرك بالله»، يعلن الشاعر، بلغة لا تقبل التأويل، وبعبارات تحمل كل شروط سبق الإصرار والترصد أن
«أنا المشرك الأولُ
دمي سفْريَ المُنزلُ»
غير أن ما يحتمل التأويل وإعادة القراءة في هذا النص كان مفهوم الشرك نفسه، إذ يُخرجه الشاعر من دائرة المحرّم إلى بقعة من النور، عبر سلسلة من الصور المتتابعة السريعة: «إني لَأشرك بالله اسم البلاد وطين البلاد/ سأشرك بالله أمي/ أصلي صلاة العصافير/ أغني لغيم الشتاء/ أوجه وجهي لعشب المسافة... لنارٍ... لطفلٍ/ سأشرك بالله هذا الوجود الغريب». ثم يختم القصيدة على لسان شيخه/ القناع، حاملاً معه القارئ من ضفة الفهم التقليدي لتصريحه الصادم، إلى ضفّة فهم مختلف فيه قبس من التصوف والعرفان، من دون تورط في تفاصيل قد تبدأ عند معاني الوجود والعدم، ولا تنتهي عند التفسيرات الكثيرة لوحدة الوجود، وقاذفاً بكرة نار بين يدي القارئ، جاعلاً منه عنصراً مشاركاً في صياغة القصيدة، ومشاركاً في رحلة البحث عن أجوبة ما بعد القصيدة، يقول:
«ويضحك شيخي الذي كوّر الشّمس عند الغروب:
- لستَ تشرك يا طفل قلبي
- ترى كيف ذلك يا شيخ؟
- أنت الموحّد
قال الحكيم الذي علمته الغيوب»
ولما كان الشعر بوابة الشاعر لخلق عالمه الخاص بين الكلمات والسطور، ولما كان لهذا الواقع المختلق قوانينه الخاصة، كانت قصيدة «لو كان لي» أنموذجاً واضحاً عن كيف يمكن لتقنية تقديس المدنّس/ تدنيس المقدّس أن تفتح للشعر طرقاً من التجديد والاختلاف اللذين سيصبّان في نهاية المطاف في خدمة الفنّ والإنسان. ففي هذه القصيدة، وتحت إطار الـ «لو» الشرطية التي تفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط، يجد الشاعر مساحة آمنة ليقوم بلعبته الشعرية، محتفظاً بسترة نجاته التي حاكها من تأويل العنوان وشرطيته، فهو كمن يقول: «لو كان لي، غير أنه ليس لي من ذلك شيء، وعليه لا ذنب اقترفت لامتناع الشرط».
يحشد حمادة في هذه القصيدة آدمَ ونوحاً وإبراهيم وموسى ويوسف في موقف يكاد يشبه قوس المحكمة، وهو هنا لا يحاكم الشخصيات التاريخية المذكورة بما هي شخصيات مقدّسة لأنبياء مقدّسين، بل ينتخب مواقف معينة من سيرهم، ويسلخ هذه المواقف عن سياقاتها الدينية إلى سياقات محض بشرية، في عملية صهر لثنائية المقدّس/ المدنّس في مزيج واحد ما يجعل من الممكن، ضمن سياق اللعبة الشعرية، تخليق المقدّس من المدنّس والعكس.
«ولكُنت آدم غير أنّي ما انتظرت غواية الحسناء أو شجر السفرجل كي أقيم خطيئتي
ولكُنت أعصي
لا لشيء
إلّا لأفعل ما أشاء
من قال إن الله يغضب إذ يرى الإنسان يفعل ما يشاء».
ففي هذا المقطع من القصيدة، يقوم الشاعر، وبالتقاطة ماهرة، باستخراج فضيلة من رذيلة ومقدّس من مدنّس. فها هو يغني للحرية كقيمة مقدسة، بعدما حرّرها من قيود القصة الدينية ودلالاتها السيميائية، ثم يؤكد رؤيته من خلال تساؤل يحمل معنى الاستنكار لا الاستفهام: من قال إن الله يغضب إذ يرى الإنسان يفعل ما يشاء؟! مستبطناً: وهو القائل «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
وفي مقطع آخر، يستحضر نوحاً مختلفاً عن نوح التاريخي في قوله: «ولكنت نوحاً في السفينة غير أني أثقب الخشب المتين ليغرق الناجون في الطوفان».
فهل هؤلاء «الناجون» عند حمادة هم أنفسهم «الحكماء» عند أمل دنقل في «مقابلة خاصة مع ابن نوح»؟ أولئك الذين أمعن دنقل في تدنيسهم، واضعاً لفظة الحكماء بين قوسين، ومصوّراً إياهم كالجبناء الذين تركوا الأرض في حين صمد ابن نوح البطل فيها. ومستحضراً إبراهيم من طريق مختلف عن قصة الشاة، يقول حمادة:
«ولكُنت إبراهيم لكني رأفت بهاجر
وحملت سارة للخيام تجاوران كلتاهما ليل الصحارى والذئابْ
ولكنت ما صدقت ما شاهدت في الرؤيا
لا ليس كفراً بالذي أوحى إليّ
وإنما ليقيني الأزلي أن الله يحتضن الطفولة من هجير الظل والماء/ السرابْ»
فهل من صورة أكثر نقاء من هذه، وأشدّ سطوعاً بالبياض يمكن أن يقدمها الشعر عن الله؟! ثم ألسنا نسمع من المنظّرين لوظيفة الفن طوال الوقت كلاماً عن ضرورة أن يكون للشعر رؤيته، وموقفه الحقيقي من الوجود وتمظهراته، ومن الإنسان وأحواله؟! وفي زمن كهذا الزمن، حيث يُستحلُّ كل شيء، ويُرتكب القتل والنهب والسرقة والظلم والاغتصاب وكل الموبقات باسم الله، ألسنا نحتاج إلى إعادة الاعتبار لاسمه الرحمن الرحيم، في مقابل الفهم المتطرف لاسمه الجبار المتكبّر المنتقم؟!
«ولكنت يوسف في الهوى
وحملتُ في قلبي زليخةَ حين قالت «هَيْتَ لك»
لا لشيء
إلا لأفتح في زليخة باب أنثاها المغلَّق
حسنَها الممنوع
أفتح بعدها قلبي ليَتَّسعَ الجميع»...
فضلًا عن العاطفة الجيّاشة الواضحة الأثر في هذا المقطع من القصيدة نفسها، نجد أيضاً واحداً من مواقف تدنيس المقدّس، ففي الوقت الذي رأى فيه يوسف القرآني «برهان ربّه»، إذ «همّت به وهمّ بها»، لمح يوسف الشعريّ في زليخة «باب أنثاها المغلّق»، فكان أن انتصر النصيّ للطاعة مدفوعاً بما رآه من برهان، وانتصر الشعريّ للحب وحده، مدفوعاً بكل ما في الشعر من مساحات بيضاء أحسن الشاعر استثمارها لتتسع للجميع، وهو هنا، شأنه في ذلك شأن كل من استخدم هذه التقنية التعبيرية في لعبته الشعرية، لم يرفض الطاعة ولم يختر المعصية، بل التفّ على السياق التقليدي للقصة وجاءها من باب ثنائيةٍ مختلفة، فكانت معادلة الحبّ/ الصدّ مسرحاً رديفاً للقصة وبديلاً شعريّاً عن معادلة الطاعة/ المعصية.
ختاماً، يجدر القول بأنّ هذه الظاهرة المنتشرة واللافتة، والتي تستحق الدراسة التشريحية الأكاديمية لدليل حقيقي على الإمكانات الهائلة، والمساحات اللامحدودة التي تختزنها القصيدة العربية والتي تمنحها بطاقة عبور ذهبية إلى كل عصر ممكن، فتكون القصيدة التي لا تموت، وأنها ليست ظاهرة أُلصقت بالشعر لصقاً، بل هي منه، من طينته وجبلته وسنخيته. أوَليس الشعر في الأصل خروجاً كبيراً «مدنّساً» على نسق اللغة اليومية العادية «المقدّسة»؟!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا