كان الوقوع مني صدفة وبدون قصد، وعلى غير اتفاق، على كتاب خالد زيادة «كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقّفين» (طبعة رابعة، 2020 ـــ المركز العربي للدراسات والنشر. بيروت-الدوحة ـــ طبعة أولى: رياض الريّس للكتب والنشر، 1991). إذ جذَبني إليه عنوانه، فشرعتُ في قراءته، فاستفدتُ مما عرفته لأوّل مرّة، وما كان خافياً عليّ من قبل، فواضحٌ لي أن اختصاص صاحبه قائم على نفض التراث، سيّما الحديث منه. سارت الأمور على خير على مدى 240 صفحة من أصل 300، فاطمأننت إلى أنّ زيادة عقدَ مقارنة ــ لهي مقاربة وفي آن مقابلة ـــ مع مفكّريْن لامعيْن في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة: ألبرت حوراني (مواليد مانشستر 1915 ـــ وفاة في أكسفورد 1993) وهشام شرابي (مواليد يافا، حيّ العجمي 1927 ــــ وفاة في بيروت 2005، ووري في مدافن الباشورة حيث والدته الطرابلسية فاطمة الصوفي، حسب وصيّته، وإلى جانب أخيه خالد أيضاً، مسجّى بـ «الزوبعة» علم الحزب السوري القومي الاجتماعي)، الذي حمله على الأكفّ من جامع البسطا رؤساء الحزب القومي، وعمده السابقون واللاحقون وفيهم جبران عريجي، محمود عبد الخالق، علي قانصوه، أسعد حردان، علي عمران، توفيق مهنّا، إليان الأحمر. وكان في الدفن كمال الصليبي الذي همس في أذني: «تعال نمشي بين القبور فنتّعظ». رجع زيادة إلى كتابيْن معلَميْن: «الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939» لحوراني و«المثقفون العرب والغرب: عصر النهضة 1875-1914» لشرابي. كتاب حوراني ترجمة كريم عزقول صاحب «العقل في الإسلام» (ميونيخ 1946، أطروحته للدكتوراه هناك)، وكتاب شرابي ترجمة «دار النهار». الاثنان، عزقول وشرابي أشرفا في فترات متقاربة في الأربعينيات على عمدة الثقافة في الحزب القومي. كتاب حوراني بالإنكليزية عن «جامعة أكسفورد» عام 1962. كتاب شرابي بالإنكليزية عن «جامعة جونز هوبكنز» عام 1970.
يرى زيادة أن دراسة حوراني تهتمّ بالأفكار في تطوّرها التاريخي، فيما أنها، على نحو ضمني، لا تقرّ بتماسك التيّار الإصلاحي الإسلامي، وتُفرد للتيّار العلماني فصلاً بكامله، تأخذ بتطوّره في مراحل لاحقة أكثر مما تأخذ بفعّالية العلمانية في نهاية القرن التاسع عشر. وإذا كان حوراني في فهم زيادة يحجب الأفكار حول شخصيات محدّدة تُستخدم كرموز لاتجاهات، فإن شرابي في فهم زيادة تتحكّم الثنائية الدينية في مجمل تفكيره. ثم يرتقي زيادة في إسقاطاته، فيرى أن شرابي يحيط المثقّفين بمبالغات ومغالطات ليصل من خلال ذلك إلى استنتاجات لا أساس واضحاً لها. ويعزو زيادة ذلك «إلى نقص في تقصّي الوقائع، وإلى نزعته الأيديولوجية التي تريد أن تضفي على الواقع تطوّراً غير مطابق لكلمة أيديولوجيا». عند هذا الحدّ اتّضح لي غرض زيادة، فكان لا بُدّ من أن أستنجدَ بكتابه «لَم يَعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015)، فعُرِف السببُ وبَطُل العجبُ، بمعنى أنه هذا ما يقدّمه العرب لأوروبا، وعلى هذا التمنّي تنشأ الأمم وترتقي.
عند الصفحة 125 من كتابه «لَم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب»، يشير زيادة إلى أنّ «الحزب السوري القومي» دخل في «مغامرات» انقلابية، منها الانقلاب «الفاشل» عام 1961 في لبنان «الذي قاده نقيب وملازم أول في الجيش اللبناني». ومن باب التوضيح، للحزب اسم صريح، هو «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وطبعاً المغامرات تُسمّى بها المطارحات الفكريّة وليس النهايات المُظلمة في غياهبِ السجون. أمّا النقيب الملازم، فليس نكرة. إنه فؤاد عوض، مواليد 1929. عندقت، عكّار. خرّيج «فرير» طرابلس والبطركية في مصيطبة بيروت والكليّة العسكرية في الفياضيّة (1950). على إثر الانقلاب، خضع لأربعة أشهر من التعذيب. زنزانته متر بثلاثة أمتار. صدر الحكم بإعدامه وخُفّف إلى مؤبّد ثمّ أخرجه من السجن الرئيس سليمان فرنجية بعفو خاصّ صوب ميلاد عام 1970.
وليس صحيحاً ما يورده زيادة عن أن القوميين خرجوا من السجون «في مطلع السبعينيات». آخر من خرج هو عوض، عقاباً له لأنه عسكري، في نهاية 1970. يُراجع كتابه «الطريق إلى السلطة» (1973، طبعة ثانية 2017) وهو سجلّ حافل بتنكيل السلطة بالقوميين. ليلة سفري إلى فيينا صيف 1987، جاء عوض لوداعي. قال لي: «نحن الآن في عهد تشكّل الإمارة». عدت إلى بيروت ربيع 1994 وقلت له: «نحن الآن في عهد تشكّل القبيلة». وقبل وفاته بأشهر، آمنّا أنه عهد تشكّل المذهبية (توفي عام 1998). وللتوضيح، ليس هو من «قاد» الانقلاب، هو من قادَ رتلَ الدبّابات من ثكنة صُور باتجاه بيروت وحاصر وزارة الدفاع. الانقلاب قرار جماعي لرئيس الحزب عبدالله سعادة، وكان قد تداولَه مع رئيس المجلس الأعلى محمد بعلبكي وناموسه نبيه نعمة. كان مجلس العُمد يضمّ: رامز يازجي، بشير عبيد، يوسف المعلّم، إنعام رعد، عمر أبو زلام، مصطفى عبد الساتر، يوسف الأشقر، فيليب مسلّم، صبحي أبو عبيد، المجلس الأعلى رئيسه محمد بعلبكي وناموسه إميل رعد. وكان أعضاؤه: أسعد رحّال، أسد الأشقر، منير خوري، عمر أبو زلام، عبدالله قبرصي، كامل بو كامل، نذير العظمة. لم يكن الانقلاب مغامرة بل كان قراراً جماعياً. وبالطبع في البدء، تباينت الآراء وأحياناً تناقضت جذرياً في القيام بالانقلاب وضرورته ونجاحه. وساد تهيّب بأن وقع الانفصال في الشام هو نهاية الوحدة مع مصر (1961)، فبعث عبدالله سعادة ببرقيّات إلى الأعضاء الشاميين العسكريين المُبعدين إلى الخارج يستقدمهم إلى لبنان، فيما رَكَنَ إلى فؤاد عوض وشوقي خيرالله وبديع غازي (وهم عسكريّون في الجيش اللبناني) في الاتّصال بضبّاط الجيش الذين كانوا يفكّرون في الاتّجاه الانقلابي ذاته» (كما جاء في حيثيات المحكمة الحزبية، قرار 118 تاريخ 26 آب 1971).
أمعن زيادة في حشرِ أنطون سعادة تحت خانة أنه «مفكّر من طراز خاصّ»، و«ابن المهاجر خليل سعادة»


فؤاد عوض التقى أنطون سعادة مؤسّس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» عام 1948 في طرابلس في منزل عبدالله سعادة وزوجته ميّ (والدَي النائب سليم سعادة)، وكانا طبيبين في مستشفى عبد الوهاب، ومن حسن طالعي أني حضرتُ مؤتمر ملكارت، بالإنابة عن حركة «فتح» الصاعدة آنذاك، المنعقد في «فندق ملكارت» عند الرملة البيضاء صوبَ ميلاد عام 1969 إثر خروج القوميين المدنيين من السجون بقرار من الرئيس شارل حلو (بعفو عام منه)، فشاهدتُهم عن كثب، وارتحتُ إليهم، فأنا بطبعي انقلابي منذ مسقطي. هذا عن صديقنا فؤاد عوض. أما عن زعيمنا أنطون سعادة الخالد الذكر في دنيا الهلال الخصيب، فالباحث زيادة أمعنَ في حشرِه تحت خانة أنه «مفكّر من طراز خاصّ»، وأنه «ابن المهاجر خليل سعادة». غاب عن بال زيادة أن خليل سعادة طبيب خرّيج إسطنبول إثر طرده من الكلية الإنجيلية السورية (الأميركية بدءاً من عام 1920) في عام 1882 بعد تأييده نظريّة داروين ورفضه تحوّل لغة التدريس فيها من العربية إلى الإنكليزية. أما سعادة الابن، رائد النهضة القومية الاجتماعية في بلاد الشام، من غزّة إلى البصرة، فليسَ كما ينعتُه زيادة بأنه «نزعة مسيحي أرثوذكسي يرى سوريا من منظور كنيسة أنطاكية»، لا بل إنّ زيادة يمضي بعيداً في كلام عن سعادة لا يمتّ إلى سعادة أو إلى دعوته بصِلَة أو مرجعية: «إن دعوة أنطون سعادة لم تكن تنمّ عن عبث مطلق، فقد استندتْ إلى أساس وحيد هو الجغرافيا المدعوم بأساطير ما قبل التاريخ، وهو أول مسيحي يسعى إلى تأسيس حزب قبل ميشيل عفلق وجورج حبش». أعلى هذا الأساس ينهض التاريخ؟ لا بل أعلى هذا النحو هو التأريخ؟ وعلى سيرة التاريخ والتأريخ، والشيء بالشيء يُذكر، فللتاريخ، كما ألحّ علينا أستاذنا الجليل كمال الصليبي زمن درسنا عليه، ونحن نَشْء في أفياء بيروت، أُصول لا يجوز الخروج عليها، لا بل أصرّ على أن التاريخ علم يرضى بإعادة النظر فيه وكرّ البصر إليه، وغداً، حين تسقط المنطقة نهائياً، وهي هالكة لا محالة، لا بل إنّها سقطت، منذ اغتيال سعادة فجر تمّوز 1949، تزامناً مع سقوط فلسطين، وأخيراً بسقوط بغداد، في أتون التعصّب الديني، وتلظّت في مرجل الهَوس المذهبي فاستعرَ لهيبُ الطائفة وتطايرَ شررُ الجهلِ المطبق، فإذا بالحريق الأكبر بين غزّة والبصرة لم يُبقِ ولم يَذرْ. وبالأمس جاء انفجار بيروت من مرفئها إشارة واضحة إلى عقم الفكر السياسي الوافد من ثرثرة فلسفة غيبيّة، وها نحن ماضون، بعنادنا ولامبالاتنا ونرجسيّتنا وأنانيتنا وبطشنا، إلى ما هو أعتى وأفظع، أي صورتنا حتى الساعة، ومنذ قال أنس بن العبّاس بن مرداس، وقيلَ جدّه أبو عامر، وقد أنشده ابن عقيل:
لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلّةً
اتّسعَ الخَرقُ على الراقعِ
فعلى مدى مئة عام من التاريخ المجيد لدولة لبنان الكبير، لم تسجّل الحكومة اللبنانية حربيْن أهليتيْن، لكنّها سجّلت انقلابيْن لا ثالثَ لهما. نهضَ بالأوّل سعادة الأوّل ونهض بالثاني سعادة الثاني، والتقيا على مبدأ الزعيم «إن الحياةَ وقفةُ عزّ فقط». أمّا الباقي فتفاصيل، وباطل الأباطيل. وكان أستاذي الطيّب الذكر خليل حاوي، حارس سعادة ورفيقه بين عامَي 1947 و1949، استشفّ واقعنا الأليم خلال الحرب الأهلية الثانية في قصيدة مكثّفة ألقاها في «مهرجان المربد الرابع»، على مقربة من بغداد، عام 1978، فكانت وقفة عزّ أيضاً، من عليائه في الشوير:
دون مطلّي ترتمي
مدينة العناكبْ
وترتمي المناصبْ
في مناخ الصخر
والأدغال والدوالي
وحيث تزهر الحيّة الرقطاء
باللآلي
تغطّ في الشمس ولا تبالي
تموت عنكبوتْ،
تموت، والعناكب
رسولهم يموتْ

* باحث فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا