حين نتحدّث عن الفكر الفلسفي في المغرب، لا يُمكن تناسي محمد سبيلا (مواليد الدار البيضاء ــ 1942)، بوصفه أبرز الذين انكبّوا على دراسة مفاهيم وقضايا كالحداثة والتحديث والنَّزعات الأصولية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتقنية وما بعد الحداثة وغيرها من المفاهيم الفكرية، التي طفت على سطح الكارتوغرافيا الفكرية العربيّة، منذ ستينيات القرن العشرين. شهدت هذه المرحلة صراعاً فكرياً وإيديولوجياً، بين دعاة فكرٍ سلفيّ وبين رواد الحداثة المغربيّة أمثال عبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي وباقي الأسماء البحثية الأخرى من الأجيال الجديدة، التي جاءت بعد هذا الجيل المُؤسِّس في تاريخ الفكر المغربي مثل محمّد سبيلا، وعبد السلام بنعبد العالي، وسالم يفوت، وكمال عبد اللطيف، وعبد الإله بلقزيز، وموليم العروسي، ومحمد نورالدين أفاية... انشغل هؤلاء ضمنياً بتشريح مفهوم الحداثة سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً مواجهين أنصار الفكر السلفي إبان سبعينيات القرن العشرين. من جهته، انشغل محمّد سبيلا باكراً بتعريب الفلسفة الغربية وتقريبها إلى القارئ المغربي عبر كُتيّباتٍ صغيرة، حاولت «تبيئة» أفكار وتصوّرات غربية مع ما كان يُكتب آنذاك داخل المغرب. هذه الطريقة «العضوية» في نقل الفلسفة الغربية واستضافة فكر الآخر ومحاورته، أتاحت لمحمّد سبيلا ذيوعاً كبيراً داخل المنطقة العربيّة وجعلته في طليعة المُترجمين للفكر الفلسفي الغربي، إلى جانب رفيق دربه عبد السلام بنعبد العالي، بسبب اشتغالاتهما على ترجمة الكثير من النصوص ضمن ما سُمي بـ «دفاتر فلسفية». هذه الكُتيّبات المُهمّة (للطلبة والباحثين) التي صدرت عن «دار توبقال»، جعلت المفاهيم الفلسفية الغربية مُستساغة ومألوفة داخل الفكر المغربي، الذي أضحى اليوم، يُشكّل مدرسة قائمة بذاتها، بسبب هذه القفزة النوعية، التي حقّقتها هذه الترجمات الفلسفية. أضف إلى ذلك حجم التأثير الذي مارسه الفكر المغربي في خلق سجالٍ حقيقي مع المشرق ومحاولة خلق مشروع فلسفي عربيّ يحتكم في أصوله ومنطلقاته إلى التراث الفلسفي العربي عند كل من ابن عربي، وابن رشد، وابن طفيل، والغزالي وسواهم من المفكرين داخل العصر الوسيط مشرقاً ومغرباً.
يرى أنّ هزيمة المغرب في معركة إيسلي (1844) ستجعله يُفكّر في تقليدية ذاته أمام حداثة الآخر وخصوصيّاته على المستوى العسكري

والحقيقة أنّ هذا التأثّر بالفلسفة العربية الوسيطية، سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ ومبالغٌ فيه أحياناً على صعيد المُمارسة، بحيث إنّ الاهتمام بموضوعات فلسفية، لا تخرج عن «الخطاب الديني» بمفهومه الواسع أثّر في مجال البحث العلمي المغربي. إذ جعل الفلسفة داخل المغرب، لا تخرج عن هذا التفكير الفجّ في «الإسلاميات» على حساب موضوعات أخرى مثل الحداثة الفنية والجمالية من تشكيل وسينما وفوتوغرافيا وفلسفة التواصل والجسد، التي نحن في حاجة ماسّة إليها اليوم، أمام مفاهيم واقعٍ جديدٍ اكتسحت معالمه الفضاء المُتوسّطي، وجعل هذه القضايا، تطفو بقوّة على سطح العالم العربي مُشكِّلة «المركز» الفلسفي بعدما ظلّت تمتطي لقرونٍ سيرة «الهامش» واللامفكّر فيه. الأهميّة التي أصبح يكتسيها مفهوم الفنّ وحداثته اليوم، جعلت المُفكّر موليم العروسي يُخصّص حيزاً كبيراً، على مستوى التفكير والتأليف، للتشكيل المغربي، الذي راكم فيه أعمالاً كبيرة تستحق القراءة والتأمّل. باستثناء ذلك، فإنّ الباحث يعثر على فراغات مُخيفة داخل مجال البحث الفلسفي، في ما يتعلّق بجانبه الجمالي، خصوصاً بالنظر إلى بعض الممارسات اللاعلمية داخل المدرسة المغربيّة من توقيف تعليم الفنون التشكيلية بوصفها مادة ثانوية، وفق تفكير الجهة المسؤولة عن قطاع التعليم في المغرب، ما سينعكس سلباً على المستوى الأكاديمي داخل الجامعة. هذا باستثناء بعض المفكّرين الذين عملوا منذ سبعينيات القرن الماضي على التفكير في موضوع الصورة ومُتخيّلها مثل عبد الكبير الخطيبي وإدمون عمران المالح. ورغم اهتمام سبيلا بمفهوم «الحداثة» من الناحية التقنية والاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية، إلا أنّ الاهتمام بالجانب الفني والجمالي، ظلّ مُغيّباً داخل مشروعه الفكري.
مع ذلك، فإنّ الرؤية الفلسفية لدى محمّد سبيلا في كتابه الجديد «الشرط الحداثي» (دار خطوط ــ الأردن)، تتحرّر بشكلٍ قوي من التقوقع المُميت داخل التراث الفلسفي العربي، صوب فكرٍ ينهل منه ويُشخصه ويُفكّكه ويُساجله لكن دون من أنْ يُقيم فيه. بل إنّ القارئ لأعماله، يكتشف حجم العناية التي خصّها سبيلا لمفهوم الحداثة وسيرتها «الموجعة» داخل الفلسفة الغربية الحديثة، مُحاولاً استعادة هذا المسار الفكري العسير، الذي مرّت به الحداثة منذ القرن الخامس عشر. أما في ما يخصّ بداياتها في العالم العربي، فهو يُؤرّخ لها، انطلاقاً من صدمة الاستعمار والشعور الغريب، الذي أثارته هذه الصدمة في وجدان الشعوب العربيّة، وهي تشعر للمرة الأولى بنمط عيشٍ جديدٍ، يكتسح حياتها اليومية ويجعلها تتخلّى عن تقليدية مجتمعها. أما في المغرب، فإنّ عملية الحفر لدى سبيلا، تتخذ بعداً تاريخياً، بحيث يرى أنّ هزيمة المغرب في معركة إيسلي (1844)ستجعله يُفكّر في تقليدية ذاته أمام حداثة الآخر وخصوصياته على المستوى العسكري، بخاصّة أنّ الجيش المغربي دُهش من قدرة هذا الجيش الصغير المُنظّم عسكرياً من إلحاق الأذى بجيشٍ تقليدي، كان يعتقد أنّه الأقوى في شمال أفريقيا. هذه الصدمة ستتكرّر مع بداية فرض الحماية على المغرب، مع اكتساح فرنسا للأراضي المغربيّة وتقسيم البلد إلى ثلاث مناطق: الأولى في يد الإسبان والثانية في يد فرنسا وجعل مدينة طنجة منطقة دولية. هذا الأمر، سينعكس إيجاباً على طنجة، التي أضحت حاضرة السياسيين والدبلوماسيين ومحطة للفنانين والمخرجين والأدباء من مختلف دول العالم خلال ثلاثينيات القرن العشرين. ورغم أنّ الصدمة لم تُعمّر طويلاً ـــ إذْ سرعان ما سينخرط الشعب المغربي في مفاتن الحداثة ومنتجاتها على المستوى التقني حتى صار يستهلك اليوم مختلف المنتجات التقنية بإفراطٍ لا مثيل له ـــ إلا أنّ مفهوم الحداثة فكرياً في نظر محمّد سبيلا، لم يأت بكيفية مُكتملة، وإنّما جاء بشكل مُتفاوتٍ وتدريجيّ. كأنّ «العقل» المغربي لم يستوعب بعد شروط الحداثة وموضوعاتها الغربية. فهو تارة يقبل بها خلال مرحلة معيّنة كقدرٍ محتوم، وطوراً يرتدّ عليها فكرياً واجتماعياً ويمنحها جسده وتفكيره تقنياً. من ثمّ، يرصد محمد سبيلا مفاتن الحداثة، مُحاولاً تشريحها في علاقتها بالمجتمع المغربي والعربي، ومدى تغلغلها داخل النسيج الاجتماعي وردود الفعل التي أبداها دعاة التقليد ضد هذه الحركة التنويرية، التي اجتاحت ليس فقط المغرب، وإنّما كلّ البلدان المُستعمرة وحتى البلدان الأخرى التي كانت خارجة عن سُلطة الاستعمار. في تلك الفترة، وصلت إليها رياح الحداثة والتحديث وجعلتها في قلب التقنية وتحوّلاتها. على هذا الأساس تغدو الحداثة لدى محمّد سبيلا، بعداً أنطولوجياً، فهي قدرٌ محتومٌ. إنّها تكتسح الجغرافيات وتخترق الحدود والسياجات وتتلبّس أكثر من لبوس لامرئي، بل إنّها تفرض نظام حياة عيشها الذي تُريد وتجُبّ الذي قبلها وتنفيه وتجعله أسير ماضيه.


وهذا الأمر، هو ما يُجيب عنه ضمنياً محمّد سبيلا في كتابه الجديد الذي يستكمل التفكير في الحداثة، بوصفها قضية مركزية وأساسية ومدخلاً أساسياً للتفكير في جوهر معضلاتنا السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال موضوعات من قبيل: الحداثة في فكر هيدغر، الأنوار، المسألة الدينية، الزمن، اليسار والحداثة، التنوير العربي، المخاض الديمقراطي... فقد سبق لسبيلا التفكير في هذه القضايا في كُتبه السابقة: «مدارات الحداثة»، «الحداثة وما بعد الحداثة»، «مخاضات الحداثة»، لكنّه يُعيد التفكير هنا بشكل أعمق على ضوء التحوّلات، التي طاولت مفهوم الحداثة خلال القرن الحالي. يقول سبيلا: «حينما اكتشفت مفهوم الحداثة، شعرت وكأني وصلت إلى المفتاح السحري لكل هذه الأشياء. المفتاح السحري التصنيفي الذي يجمع ويُؤطر كل هذه التحوّلات، بمعنى أنّ كل هذه التحوّلات الاجتماعية والفكرية في مجتمعنا وفي العالم العربي والثالثي، بل حتى في العالم الغربي، تندرج في إطار منظور استراتيجي، هو ما يمكن تسميته بالحداثة والتحديث». من هذا المُنطلق، يربط سبيلا «التحديث» بـ «الحداثة» ويجعلهما شيئاً واحداً: الأوّل له علاقة بعنصر التاريخ وديمومته وتدرّجه في تحديث العديد من القطاعات السياسية والاجتماعية والقانونية على شكل منجزاتٍ مرئية وغالباً ما تتّضح معالمها في فكر سبيلا في كونها بمثابة مُقدّماتٍ عملية، طاولت الشعوب العربيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد الدول الإمبريالية والاستعمارية. هذه الأخيرة، يعتبرها ماركس شكلاً من أشكال تحديث الشعوب، فهي في نظره ما يُمنح للشعوب «المغلوبة» على أمرها و«المهزومة» عسكرياً وسياسياً واجتماعياً، لكنّه مع ذلك يدعو رفقة إنجلز إلى ثورة الشعوب على الأنظمة الاستبدادية القمعية وتحديد مصيرها. أما الثاني (الحداثة)، فتتشكّل ملامحه لدى سبيلا على شكل مراجعات نقدية لطبيعة الحياة والشرط الإنساني سياسياً واجتماعياً وفكرياً على ضوء الحداثة، التي يربطها بكل أشكال الفكر المُجرّدة من خلال النظر إلى الظواهر من حيث تفاعلاتها الداخلية، أكثر من التفكير فيها من زاوية تأثيرات متعالية وبعيدة. ولأنّ سبيلا، يُعرف اليوم بوصفه مُفكّر الحداثة المغربيّة بلا منازعٍ، فهو يُقسّم الحداثة إلى ثلاثة مستويات كبرى. يتعلّق الأوّل بما يُسميه «الحداثة التقنية» التي تضم كل أشكال الاختراعات العلمية، التي بزغ فجرها منذ القرن الخامس عشر إلى اليوم. أما «الحداثة التنظيمية/ الاجتماعية»، فتسعى إلى تنظيم المجتمع ومحاولة إيجاد روابط أصيلة بين الأفراد داخل هذا المُجتمع، بما فيها الحقل السياسي وتوزيعه واستغلاله وتقنينه... وصولاً إلى أرقى الحداثات وهي «الحداثة الفكرية» التي لم يستوعبها «العقل العربي» (تعبير محمّد عابد الجابري) بما تمنحه لنا من طاقات خلّاقة على مستوى التفكير في معضلاتنا اليومية وتأخرنا التاريخيّ، بحيث إنّها تقوم على طريقة التفكير والإدراك والنظر والتمحيص في ميكانيزمات العالم الذي ننتمي إليه.
يتميّز كتاب «الشرط الحداثي» ببساطة أسلوبه وبيناعة أفكاره وبقدرته الهائلة على التنقيب، انطلاقاً من نماذجها الكبرى داخل الفلسفة الحديثة والمعاصرة. ولأنّ محمّد سبيلا، يُعتبر أكثر المُفكّرين المغاربة الذين تمرّسوا في الصحافة، فإنّ القارئ لنتاجاته الفكرية، يرى حجم هذا التأثير، الذي يطبع كتاباته ويجعلها بسيطة الأسلوب والصنعة، لكنّها قويّة على مستوى خلطتها الفكرية والمفاهيمية. هي تقوم على البساطة في الأسلوب، لكنها تستند فكرياً إلى متانة البنى المفاهيمية، التي تشُقُّ بها صمت المنافي اليباب داخل الفكر العربي المعاصر وتجعلها تبرز إلى السطح من أجل النقد والتمحيص في إمكاناتها في التأثير على بنية المُجتمعات العربيّة وموقع الحداثة الفكرية داخلها. على هذا الأساس، ظلّت كتابات سبيلا الفلسفية عل مدار سنواتٍ، تُفكّك ماهيات الأشياء، لا الأشياء، وتبحث لها دوماً عن أراضٍ بكر، حيث تكون للكلمة كلمتها الأولى ويكون الفكر مقروناً بالحفر عن هذا المُتوارى (مواطن الفكر) وراء الخطاب الفلسفي العربي الحديث والمعاصر.
* ناقد مغربي