انتظر عشاق Fargo المُسلسل الأميركيّ ثلاث سنوات تامّة قبل أن يعود نوح هاولي إليهم بموسمه الرّابع. لكنّه انتظار لم يكن «عبثيّاً» بالمرّة من المُنْتَج التلفزيوني الذي صار صنو مقاربة أميركيّة استثنائيّة لفلسفة العبث في عصر ما بعد الحقيقة مكتوبة بأدوات الفنّ البصري. فهذا المُوسم الأكثر قتامة إلى الآن تحفة فنيّة فكريّة متخمة بالكثير من العناصر المبهرة في جمال تناقضها سواء على مستوى الثيمة الكليّة (المتفلسفة)، أو خيوط الحبكة (المتوازية) أو الشخصيّات (المتعددّة) أو نصّ الحوار (الملحمي) إلى الاستخدام المذهل لأدوات السيموتوغرافيا دون أن تتوقف عند الموسيقى التصويرية أو الأداء الخلّاق لفريق الممثلين كل بحسب دوره أو حتى أسماء الحلقات (11 حلقة بمعدل 50 دقيقة) وتعداد الأسماء في نهاية الحلقات، فيما تتعاقب الأحداث في مناخات من تقاطع تصادمي بين الهدوء التام والفوضى الشاملة، بين الصور الشاعريّة والمشاهد المقذعة، بين الألوان الصاخبة والأسود-الأبيض، بين الغوغائيّة والبطولة الهادئة، بين أسوأ وأفضل ما في المجتمع الأميركي، وبالطبع مع كثير من الدم القاني فوق الثلج الأبيض الذي صار كعلامة فارقة أخرى لـ «فارغو». ومع ذلك، فإنّ هذا الموسم – كما المواسم السابقة (2014، 2015، 2017)، لن يحظى بشعبيّة واسعة أو رضى عريض من النّقاد الأميركيين على مستويين: أولهما أن الطرح الفلسفي للقصّة وغرائبيّة المشروع البصري لا تناسب إلا جمهوراً يتمتّع بذائقيّة خاصّة ونظرة معمّقة لما وراء المشهد المعروض وحداً أدنى من الثقافة العصرية، وهذه دائماً أقليّة في كل مجتمع وتحديداً عند عموم الجمهور الأميركي. وثانيهما أن هاولي اختار هذه المرّة أن يبعثر ـــ في إطار منهجيّته الإبداعيّة الفريدة ــ أوراق المسألة العرقيّة المتجذّرة في قلب المشروع الأميركي منذ أن وضع أول القراصنة الأوروبيين قدمه على شاطئ العالم (الجديد وفق المركزيّة الأوروبيّة اللعينة) قبل حوالى الـ 500 عام، وذلك جرح متقرّح أعيد فتحه هذه الأيّام في الولايات المتحدة بعد استشهاد جورج فلويد اختناقاً تحت ركبة شرطيّ عنصري، وأيضاً النّسب المضاعفة (أكثر من أربع مرّات) للوفيّات والإصابات بين الأميركيين السود (الأقليّات عموماً) مقارنة بالعِرق الأبيض. وتلك مسائل لا تجلب شعبيّة لدى نقاد الفنون في إعلام المنظومة الحاكمة.
ميزة فارغو دائماً أنّه يمكن مشاهدة كل موسم منه على حدة من دون التوّرط في العودة إلى الجذور أو حتى الإلمام بماهيّة مدرسة العبثيّة، كمرجعيّة فلسفيّة تحكم خلق العمل. فالطرح مستقل، والقصة مكتفيّة بحد ذاتها والنهاية المفتوحة دائماً لا تشير إلى موسم جديد بقدر ما هي جزء من سحر فذلكة المسلسل الاستثنائي. مع ذلك، فإن المتعة الذهنية لا تكتمل بحقّ دون فهم الإطار التاريخي لفارغو كعمل سينمائي – تلفزيوني، وربط طروحاته بالأفكار الأساسيّة لفلاسفة العبث المعاصرين التي يخاطبها جدليّاً.
«فارغو»/المسلسل يستلهم روحه من «فارغو»/الفيلم الذي كتبه وأخرجه الأخوان جويل وإيثان كوين، وهما وضعا اسميهما على المسلسل كمنتجَين منفّذين، ويلمّح إليه. لكن طبيعة العلاقة بينهما غير محددة المعالم وتختلف من موسم إلى آخر وإن يجمعها ذاك الفضاء الجغرافي لـ «ميد ويست»، أي وسط الغرب الأميركي (داكوتا الجنوبيّة ومينيسوتا وفي الموسم الرابع كانساس)، وكذلك الإعلان الافتتاحي المنقول بحرفيته من فارغو/ الفيلم: «إن هذه قصة حقيقية. احتراماً لرغبة الناجين، فقد تم تغيير أسماء الأشخاص، واحتراماً للموتى فقد تم سرد الأحداث كما وقعت بالضبط». للوهلة الأولى، لا يكاد المشاهد ليلحظ شيئاً، فمثل هذه التحذيرات التوضيحية مألوفة لروّاد السينما ومشاهدي التلفزيون في بداية العديد من الأفلام والأعمال الدراميّة كما الوثائقيّة/الدراميّة. لكنّ الحقيقة أن أحداث «فارغو» خياليّة بالكامل والشخصيّات مختلَقة ولا أساس لها في الواقع، والتحذير لا يُقصد به تبيان صحة الأحداث التي سيتم عرضها بقدر ما هو تسليط الضوء على الاستحالة المبدئيّة للمعرفة في الحالة الإنسانيّة: إذ يستحيل عمليّاً للمشاهد أن يتيقّن من صحّة الادّعاء الممكن بالفعل بصيغة ما والمستحيل بصيغة أخرى، وهو أمر ينطبق - فلسفيّاً - على جميع الحجج المعرفيّة. ومع ذلك، فإن المشاهد الذي عبر عوالم الفيلم والمواسم الأولى، لا بدّ من أن يجد خيطاً شفافاً يمتد عبرها جميعاً ويربطها معاً، دون أن تكون «كوينيّة» (أي نسبة إلى الأخوين كوين) قطعاً.
أمّا التفلسف «العبثيّ» النزعة كما ترسمه الفنون والآداب، فيرتبط عادة بتناقض منطق الأشياء، وتهافت الحسّ المشترك السليم وإثارة الشعور بالحيرة وعدم التيّقن في إطار سخريّة سوداء... سمات وُجدت في مراحل مختلفة في أدب عصر الحداثة، لا سيّما في روسيا غوغول ومجموعة شعراء «أوبريو» الطليعيين السوفييت، كما عند فرانز كافكا وصموئيل بيكيت ومدارس النهضة الفلمنكية والدادائية والسريالية، مع التأكيد دائماً على غياب تعريف عالمي لهذا النوع من التفلسف، لا في النظرية الأدبية، ولا في الفنون الجميلة أو التصوير السينمائي رغم محاولة ألبير كامو - الوجودي التوجه - في الأربعينيات من القرن الماضي لتصوير العبثية كأداة جيل الحداثة في محاولة وصف العالم الذي ما يلبث يزداد استعصاءً على الفهم، وذلك عبر خطاب يسمح بتعدّد المعاني وتناقضها وتهافتها أحياناً. أمر يتيح للفنانين والمبدعين طرح المسائل التي يمكن تصّورها فقط من قِبل المنظّرين بأدواتهم: شعر آرتو يكشف عن منطق الشيزوفرينيا بأوضح من أيّ كتاب طبّ، ويصور الرسّام إيشتر وهم المعرفة في لوحات فنيّة مذهلة، ويوظّف الروائيّ لويس كارول (أليس في بلاد العجائب) المفارقات اللّغوية لتشييد واقع/ خياليّ في خيال/واقعيّ. وقد ظنّ المؤرخون أن العبثيّة والتسخيف المرتبط بها كانا ابن مرحلة كثيفة من الزمن شهدت تقلبات معرفيّة حادّة وثورات علميّة (أي النصف الأوّل من القرن العشرين) وأنهما سينتهيان مع بزوغ شمس عصر ما بعد الحداثة عندما أصبحت الحقيقة مجرّد فئة نسبية. لكن العبث - بتمثيلاته الفنيّة والجمالية على الأقل - وجد في ذلك «البرادايم» الجديد ملعباً أوسع لخطابه الساخر: فما يُرى سخيفاً بالنسبة لجمهور ما في وقت ما، قد يبدو منطقياً بالنسبة إلى جمهور آخر أو ربّما لذات الجمهور في وقت آخر. أمر مكّن فناني ما بعد الحداثة ومخرجي الأفلام والروائيين من طرح خطابهم عبر ربط معارف محصلة بحواس غير متوافقة، والجمع بين وجهات نظر متناقضة، وتصميم تقاطع مؤامرات متوازية. و«فارغو»/ الفيلم الروائي الطويل للأخوين كوين ربما يكون النموذج الكلاسيكي لفن العبثية لما بعد الحداثة، حيث المأساة الهائلة المُتوارية وراء اليومي والروتيني، وفساد الصور النمطيّة، واستمرار الشخصيّات في تنكّب الحياة بغض النظر عن كل الإشارات العبثية والمحيرة من حولها.
في الموسم الرّابع من «فارغو»، يضعنا هاولي في مناخ الحكاية عبر مقدمة من 23 دقيقة تسرد تاريخ 50 عاماً من تعاقب سيطرة عصابات المافيا على العالم السفليّ لـ «كانساس سيتي»: اليهود الرّوس، فالإيرلنديون فالإيطاليّون والأفروالأميركيون. و«للحفاظ على السلام»، يخبرنا الرّاوي أن «ثمّة ترتيباً مأخوذاً من صراعات العائلات المالكة في القرون الوسطى يقضي بتبادل أصغر الأبناء بين عائلتي زعيمي المافيا المتنازعة». وفي 1950 حيث تدور أحداث الموسم، تتم المبادلة بين العراب دوناتيلو كبير عائلة فَدّا (توماسو راجنو) والداهيّة الأسود الصاعد لوي كانون (كريس روك في أفضل أدواره الفنيّة على الإطلاق). وبغض النظّر عن فشل هذا الترتيب تاريخيّاً في لجم العنف عند تغيّر موازين القوّة، فإنّه في لحظة ما يبدو المخرج الوحيد الممكن من استمرار دائرة الموت المجاني، لكنّه في الوقت ذاته ضمانة التوتر المُستمر: ذلك الشعور المقيم بأن أيّ خطوة خاطئة من أي مغفلّ هنا أو هناك ستشعل حرباً، وهو تماماً – كما يعرف متابعو «فارغو» الدائمون – أمر محسوم ما دام ممكناً. وعلى مسرح هذه القصة، يفرد هاولي أمامنا عدّة مسارات متوازيّة للسرد، نعلم أنها جميعاً ستتلاقى. ومع ذلك يبهرنا في مفاجأتنا كل مرّة في كيفية نسج ذلك التلاقي، طارحاً عبر تقدّم الأحداث المتوقّعة والمفاجئة في آن قضايا عديدة: العرق، الرأسماليّة، الطبقيّة (تقضي الطبقة البيضاء بقسوة على فكرة لوي كانون لإطلاق بطاقة ائتمانيّة تمنحه القدرة على مضاعفة دخله عبر السرقة العلنيّة دون ممارسة الجريمة الدمويّة ثمّ تسرق الفكرة وتحوّلها إلى صناعة كاملة أمام عينيّ لوي المنذهل من صرامة الفاصل العرقي/الطبقي)، الحلم/ الوهم الأميركي، البطريركيّة في ديناميّات العلاقة بين الجنسين، الانحرافات السايكولوجيّة ودائماً في مناخ سخريّة سوداء عبثيّة. تتناثر بين الصور الأشبه بلوحات تستحق التعليق على جدران المتاحف والموسيقى الناطقة بأكثر من الكلام مقاطع من حوار تبدو مستلّة من كتاب فلسفيّ فكأنها مهرجان شعر نثري: «هل تعرف لماذا تحب أميركا حكايات الجريمة؟ لأن أميركا ما هيّ إلا حكاية جريمة»، «أن تكون أميركيّاً يعني أن تكون مدّعياً»، «إذا كانت أميركا برمتها أمة من المهاجرين، كيف يمكن لشخص ما أن يصبح أميركياً!»، «لماذا أخدم بلداً – يقول أفروأميركي - يريدني ميتاً؟»، «إنّه بلد ليست البيسبول رياضته المفضّلة كما قد يخيّل للأجانب، لأنّ هواية الأميركيين الحقيقية هي الجريمة».
ومع أن لهذا الموسم شخصياته الرئيسيّة البارزة، فلا مجال هنا للخير المطلق أو الشرّ المطلق في ظل المنظومة الرأسمالية التي لا ترحم، فلأقسى القتلة جوانب مثيرة للإعجاب، فيما النماذج الإنسانية الحنونة قادرة على التحوّل إلى وحوش كاسرة في ظروف معينة. ولا يتوّرع هاولي عن إطلاق عديد الشخصيات البطلة بالتوازي، وكل منها يحمل جماله العبقري المتناقض وسرديته الخاصة المزينة بالعبث التي تصطف جميعاً كقطع الشطرنج (الأبيض والأسود) على رقعة يلعب بها القدر مع نفسه ساخراً من بلاهة البشر. هناك المراهقة السوداء إثيريلدا (تلعب دورها إميري كرانشفيلد) التي تحاول الحصول على التعليم رغم ازدراء المعلمين البيض لها وتلعب نوعاً من مركز أخلاقي للموسم، وجارتها في المبنى المقابل أوريتا ماي فلاور (شخصيات هاولي عادة ما يكون لها أسماء غريبة) الممرضة (لعبت الدور باقتدار جيسي باكلي) التي لديها عادة قتل مرضاها ليس لأنها تحاول إنقاذهم من المعاناة كما قد يخيّل لنا، بل هي مجرد مختلة عقلياً يغطيها سلوك مهذب ولهجة البيض القوقازيين في مينيسوتا. ويلعب جيسون شوارتزمان دور جوستو العرّاب الابن للعائلة الإيطاليّة الذي لا تعرف في أي لحظة ما إذا كان يقدّم إبداعاً كوميدياً أو تراجيديا تامّة، وكذلك غايتانو شقيقه الصبياني المجرم الآتي من البلاد الأم: ويلعب دوره سلفاتوري إسبوزيت، وخالة إثيريلدا الخارجة عن القانون (كارين ألدريدج) وصديقتها (كيلسي أسيل)، والإيرلندي باتريك ميليغان (بين ويشاو) ذي العيون الحزينة الذي تربّى عند الإيطاليين ويتولى العناية بنجل لوي حين انتقل إلى عهدتهم، وأوديكس ويف (جاك هيوستن) الشرطي القذر المصاب بوسواس قهري واضطراب ما بعد الصدمة، ومارشال الشرطة المورموني (تيموثي أوليفانت)، وغيرهم.
مستوى التعقيد في «فارغو» الرابع، كما في بقيّة المواسم، عجيب. هنا كل قطعة من الأثاث، كل سيّارة، كل مبنى، كل زي، ناهيك بالشخصيّات التي لديها ما يشبه قصيدتها الخاصة كما إمكانيّة موتها في أيّ لحظة معلقة فوق رأسها كسيف ديمقليطس، فلا ضمانات أبداً. حتى المشاهد نفسها، هناك بعضها مما ليس له حتى علاقة بالسرديّة لا العامة ولا اللحظيّة مثل الرجل الذي يعمل على لوحة الطريق الإعلانية عن «المستقبل»، ومع ذلك فهي تبدو على مائدة «فارغو» السورياليّة، كأنها طبق رئيسي آخر لا مناص من تذوّقه. ويستخدم هاولي في الانتقالات بين المشاهد طريقة تقسيم الشاشة أحياناً، أو موسيقى قويّة ومبتكرة، وأحياناً أخرى لا شيء على الإطلاق، مجرّد شاشة سوداء عابرة. وهكذا تكون متأكداً من حصول توقعاتك بالفعل لكنك مع ذلك تتفاجأ تماماً عند حصولها لأن لا شيء أعدّك للحادثة التالية. ويراوح هاولي بين الأسود/ الأبيض والملوّن وما بينهما براحة مذهلة (هناك حلقة يكون بطلاها شاب أبيض وصبيّ أسود شحبت منها الألوان تدريجاً حتى لم يبقَ فيه سوى التناقض بين لوني بشرتهما)، وحتى الحوارات تمضي في سياق الثرثرة المفرطة فيما أفضل ما فيها نقطة ربما ليست مقصودة، فكأنّك تتابع يوماً طويلاً على الإعلام الأميركي حيث يتحدث الناس كثيراً من دون أن يقولوا أي شيء بالفعل. وفوق ذلك كلّه يتمّ استعراض الثقافات المتعايشة – المتحاربة تحت المظلّة الأميركيّة، يهوديّة وإيرلنديّة وإيطاليّة وقوقازيّة وأفروأميركيّة كل منها بتفاصيله البصريّة واللغويّة والتاريخيّة والسايكولوجيّة الخاصة دون أن يتسرّب أيّ منها للأخرى أو يلغيها.
عرقيّاً، مرافعة هاولي من خلال «فارغو» الرابع تقول – بأدوات الفن التلفزيونيّ - بأنّ العنصريّة العرقيّة في المجتمع الأميركي ليست مرضاً يمكن الشفاء منه بمزيد من الديمقراطيّة أو بتحسين الظروف الماديّة لعيش الأفراد، وليست ظرفاً زائلاً سيغرب يوماً بحكم تقدّم التاريخ، وإنما هي جزء رئيس من التكوين المجتمعي الرأسمالي وهيكليّة القوّة فيه ونظام الأشياء التي لا يمكن تغييرها. ولذلك، فإن دوائر مظلمة مثل منظومة العبوديّة ــ كما سلسلة المذابح الجماعيّة والحروب الكبرى في القرنين الأخيرين - هي أقرب لأن تكون عرضاً لهذا التكوين القائم على هيمنة مجموعة بشريّة على أخرى وإن تمظهرت بأشكال متفاوتة بحسب مجمل الأوضاع السياسيّة والاجتماعية والتقنيّة - بما في ذلك الطموحات الفرديّة للأشخاص - دون أن تتغيّر الهيكليّة الأساس مطلقاً.
أثبت نوح هاولي للمرّة الرابعة في ست سنوات بأنّه أستاذ لا يقل عبقريّة عن ملهميه الأخوين كوين

ولذا فالمجموعات العرقية البيضاء من المهاجرين - يهوداً أوروبيين، إيرلنديين أو إيطاليين، ــ التي تدير مدينة العالم السفلي لـ «كانساس سيتي»، يمكنها دائماً امتلاك الطموح للترقي الاجتماعي نحو أعلى السلم، ولكن العائلات السوداء، الذين كانوا أميركيين قبلهم بمئات السنين، لن يتوقفوا أبداً عن كونهم سوداً أساساً وأولاً ودائماً وأخيراً. ولذا يقول جيستو (الإيطاليّ) لغريمه لوي (الأفروأميركي): «يمكنني أن آخذ عنوة كل المال والنساء اللواتي أرغب بهن، ويمكنني مع ذلك الترشح للرئاسة. ولكن بالنسبة لك، فإن حبل المشنقة سيكون نهايتك دائماً إن حاولت ذلك»، فيما يقول لوي في مكان آخر معدّداً أعداءه سوى الايطاليين المجرمين: «أنا أقاتل 400 سنة من التاريخ. أنا أحارب طريقة تفكير».
لقد أثبت هاولي للمرّة الرابعة في ست سنوات بأنّه أستاذ لا يقلّ عبقريّة عن ملهميه الأخوين كوين فحسب، بل مبدع استثنائي لا يقل مكانة في الفن التلفزيونيّ عن لوركا في الشعر أو ماركيز في الواقعيّة السحريّة. وهو نجح مجدداً حيث فشل معظم المخرجين الأميركيين: إذ تتصاعد قوّة مواسم مسلسله بدلاً من التراجع الحتميّ الذي اعتدنا عليه في المسلسلات الأميركيّة بعد انتهاء موسمها الأوّل. لا مسلسل تلفزيونياً معاصراً مثل «فارغو» على الشاشات هذه الأيّام، وعودته في هذا الموسم الرابع حدث ثقافيّ لا يُفوّت، وربمّا ليس هناك وقت أفضل من عزلة كورونا السورياليّة هذه للحاق بالرّكب بداية من «فارغو» الفيلم الشهير.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا