منذ سنة، كان اقتراح هدايا العيد الموسيقية أمراً طبيعياً. منذ سنة فقط. اليوم، بات مسألة تخطاها الزمن. وعندما نستخدم، عموماً، عبارة «تخطاه/ا الزمن»، يكون الزمن المشار إليه اختصاراً لتراكم تطوّرات اجتماعية وتكنولوجية وفكرية، وهذا يعني مضي وقت يُعَدّ بالسنوات أو بالعقود. هكذا كان مذ وُجِد المجتمع البشري. لكن هذه المرة، الفترة الزمنية هي أقل من سنة، وهذه «الفترة» لبنانية (ونعتقد أنها عربية بشكل عام). بمعنى آخر، ما يحصل هنا باسم التطوّر لم يحصل في أوروبا أو أميركا مثلاً، علماً أن التطوّر الذي نتغنّى به بفائض من الهبل ليس من صنعنا، بل من صنع من لم يتأثّروا به بهذا الشكل السريع والسلبي. وهذا، كمقدّمة، لا علاقة له لا بانفجار مرفأ بيروت ولا بالوضع الاقتصادي والقدرة الشرائية للمواطن. فلو كان كارل ماركس حاكم مصرف لبنان وديمتري مندلييف مدير مرفأ بيروت، لكنّا أمام الواقع ذاته: موت الهدية الموسيقية.منذ نحو قرن، وبشكل أوسع منذ الخمسينيات تقريباً، شكّلت الموسيقى المسجّلة خياراً للتعبير عن المشاعر الإيجابية خلال الأعياد (العامة أو الخاصة). تغيّر شكل الهدية المادي (فألغى الشكل السابق أو أُضيفَ إليه لفترة، فانقرضت أشكال ثم بُعِثَت حيّة من جديد أحياناً). تغيّر محتواها لناحية التيارات الموسيقية الناشئة. تغيّرت لناحية نوعية الصوت. تغيّرت أسماء الموسيقيين (أو بالأحرى كبُرَت اللائحة). تغيّرت الذائقة العامة في المجتمعات. تغيّر سعر الهدية، صعوداً عند خروج تقنية جديدة للتسجيل والحفظ، أو نزولاً مع الوقت (ثم صعوداً كلّما تحرّك الحنين إلى القديم). كل ذلك تغيّر، لكن فكرة الموسيقى المسجّلة كهدية لم تتغيّر. اليوم، ماتت. لا نقصد بذلك موتها «المادي»، بل موتها كخيار بات غير متاح، حتى لو أردناه. نقصد بذلك تحوّل السوق المحلّي (عرضاً لا طلباً)، كلّياً، من الموسيقى المسجلّة «مادياً» (LP / Cassette / CD / …) إلى تلك «غير المادية»، بمعنى تحوّلها إلى «صوت» متوفّر، فقط، على تطبيق. وهل يمكن إهداء تطبيق؟! أو حساب على تطبيق؟! تخيّلوا: قصاصة ورق في مغلّف ملفوف بورق هدايا، وعلى القصاصة اسم منصة ستريمنيغ (تيدال، آيداجيو، ديزر، سبوتيفاي،…) واسم مستخدم مع كلمة مرور، مع ملاحظة أن الهادي يتكفّل، مثلاً، بتجديد الحساب لمصلحة صاحب الهدية لمدة ستة أشهر! هذه المنصّات مزدهرٌ استخدامها في أوروبا وأميركا، لكنها أتت بشكل إضافي على الوسائط المادية لا بديلاً عنها كما حصل في لبنان. مثلاً، صحيح أن محلات بيع الموسيقى في العالم تأثرت كثيراً بسبب هذه المنصات. لكن الشركات والكثير من هذه المحلات (ومواقعها الإلكترونية) ما زالوا يتعاملون مع الـCD (وحتى الـLP، منذ عودة هذا النوع من الديسكات إلى الحياة قبل أكثر من عشر سنوات بقليل) بشكل شبه طبيعي. فالمجلات المتخصصة (لنقُل بالموسيقى الكلاسيكية) كانت قبل عشرين عاماً تفرد مساحة لجديد الموسيقى، فتعرض كل شهر لنحو 160 إلى 200 إصدار جديد على CD. العدد الأخير (كانون الأول/ديسمبر) من هذه المجلات لا يزال يعرض، تقريباً، للعدد ذاته من الإصدارات! مع العلم أن كل هذه الإصدارات يمكن إيجادها على منصات الستريمنيغ… وليس «فقط» على منصات الستريمنيغ (إلّا نادراً).
طبعاً، هذه الجريمة، جريمة قتل الهدية الموسيقية، أتت نتيجةً لتخلّي المستهلك عن «سلعة قديمة» واعتبار التمسّك بها دليل تخلّف! وعزّز هذا الانحراف عند المستهلك، نفسيات تجّار التسجيلات التي لا ترى فائدة من أي ربح متراجِع لسلعة ما. فإذا افترضنا أن ثمّة من يهتم بعد للوسيط المادي، وافترضنا أن ثمّة من يودّ إهداءه قرصاً أو أسطوانة على العيد، فالسلعة هذه غير موجودة من الأساس. ولكي تكتمل المعضلة، يُضاف وباء كورونا الذي لا يعرقل طلب الهدية الموسيقية من المواقع التي تبيعها، إلّا إذا… تدارك المعنيّ الأمر وطلب الهدية قبل أكثر شهرين (وهل يبدو طبيعياً أن ننشر صفحة هدايا العيد في أيلول/سبتمبر؟!) لكي يكفل وصولها قبل فوات العيد. لكن حتى هذا الخيار الاستراتيجي كان سيصطدم بوباء آخر، محلّي هذه المرة، اسمه المصارف التي تمنع الناس من التصرُّف بمدّخراتها.
كان يا ما مكان، في قديم الزمان، أي عام 2019، هدية في الأعياد هي أجمل الهدايا. للأطفال، للمراهقين، للشباب، للأهل، للعشاق، للأصحاب… إنها الهدية الموسيقية. ننعيها اليوم، مستعيرين من الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه ما قاله عن الله: الهدية الموسيقية ماتت ونحن قتلناها.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا