عندما حصلت على فيلم «القلعة» وهممتُ بمشاهدته، كنت متيقّناً أنّ في انتظاري شيئاً مختلف عن أفلام مايكل هانيكي السابقة. وهكذا كان. استبدل هانيكي العنف والرعب المعتادَين بإحباط لا يطاق، ثمّ خرج أكثر من دائرة راحته، مقتبساً فيلمه عن رواية لفرانز كافكا. وعندما نتحدّث عن أي شيء كتبه الأخير، ندرك تعقيد القراءة، فكيف بنقلها إلى السينما؟ لتزداد الصعوبة، نكتشف أنّ رواية كافكا التي اختارها المخرج هي أصلاً غير مكتملة. ثم يأتي الإطار التاريخيّ العائد إلى مكان ما في النصف الأول من القرن العشرين ليكمل الصورة المستجدّة وغير المألوفة على أقل تقدير، للمخرج النمساوي... لمسنا حرص هانيكي على كلمات وروح كافكا منذ البداية وحتى النهاية. هو لم يأخذ القصة فحسب، بل أورد جمل الكاتب التشيكي بكثير من الوفاء. تبدأ القصة مع مسّاح الأراضي كي (أولريش موه)، الذي يتم استدعاؤه من قبل «القلعة». عند وصوله، يحرم من الدخول أو النوم في القرية. لا يعطى الفرصة للتعريف عن نفسه وعن سبب مجيئه، يواجه بيروقراطية قمعيّة لا نهاية لها. يدخل الرجل دوامة من التجارب المحبطة والمهينة على يد السلطات من جهة والقرويين المحليين من جهة ثانية. على كي أن يتعامل ويتكيّف مع الجو العام. تمرّ عليه أوقاتٌ لا يفهم فيها ما يحدث ونحن كذلك. يتعرّض للخيانة، يقع في الحب، نشعر أنهم يلعبون معه وبه. أهل القرية ليسوا على ما يرام. القلق والضياع لا يفارقهم، تشعر بقوة خفية تتسلّط على أفعالهم ومشاعرهم. ليس هناك تفسير واضح لحال القرية وأهلها، هناك خلل في النظام، شيء غريب. القلعة لم تطلب مسّاحاً، لكنه جاء ولا يستطيع الخروج. يضعنا المخرج في جو حكاية خيالية. صوت الراوي مرافقاً الشخصية الرئيسية يستمرّ طوال الفيلم. الشخصيات تمثل شيئاً أكبر من الفرد والكائن. تبدو نماذج أو أدوات لتكتمل الحكاية. تمكّن هانيكي ببراعة من استحضار رؤية كافكا للمجتمع المتعثر البائس والأفراد المنصاعين المتخبطين في ما بينهم.في الفيلم نغمة بطيئة تخلق كثيراً من الفضول، ثمّ مع تقدم الشريط يتسلّل الإحباط، تتراكم المعاناة، تتعب قلوبنا مع عدم غياب أي مَخرج. نتوتر مع انتقال هانيكي بنا من مشهد إلى آخر بينما نصل دائماً إلى الطريق المسدود. نترقّب بفارغ الصبر تغيّر الأوضاع، أي إشارة أو حدث يخرج كي من هذه البقعة البائسة. يجب أن يحدث شيءٌ لكي يتحرّر ونتحرّر معه.
هانيكي الذي يسرّ ببثّ الرعب في نفوسنا، هل سيمنحنا السرور لرؤية مكان الخروج؟ هل سنلمس أي تحسّن في وضع كي؟ هل سيجد مكاناً للنوم؟ هل سيعمل؟ هل سيتضح خطأ القلعة وتتحلحل الأمور؟ يتماهى المخرج مع الكاتب، في الفيلم كما في الرواية، نحن مكبّلون. ولكن ما لم يكمله كافكا هل سينهيه هانيكي؟ نصّ كافكا لم ينتهِ، هل فيلم هانيكي سيريحنا أم أننا سنبقى معلقين؟ ما هذه النهاية التي مرّت أمامنا؟ هل الواضح هو هذا الأفق المنظور؟ لكن مهلاً لا يعقل أن تمرّ الأمور بسلاسة، هل العكس هو ما حصل؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا