يسمح جوزيف حرب (1964) بتسرّب عناصر وأشياء وهواجس مختلفة إلى لوحاته. الرسام اللبناني الذي أظهر منذ بداياته احتراماً خاصاً لتأليف اللوحة وبنيتها في معارضه السابقة، يواصل في معرضه الجديد «Under Construction» الذي افتُتح أخيراً في «غاليري جانين ربيز»، لعبة الإنشاء والتأليف المعرّضة لتعديلات مستمرة قادرة على بناء مادة فنية متكاملة، وعلى تقويض أجزاء منها أو إعادة تأليفها في الوقت نفسه.
قد يحدث ذلك في اللوحة الواحدة، وقد يكون هاجساً عابراً للوحاتٍ عديدة، ولكن هذه الممارسات حاضرة بكثافة في المعرض كله. كأن الرسم نفسه هو عملية قيد الإنشاء يستطيع الرسام خلالها أن يكون تشخيصياً في حدود معينة، وأن يكون تجريدياً في حدود أخرى، وأن يكون خليطاً من تعبيرات وانطباعيات قادمة من مرجعيات مختلفة، وأن يسعى إلى جعل كل ذلك نوعاً من المقتنيات الشخصية التي تتدخّل في تأليف مزاجه ورؤيته. هذا فن شخصي لرسام ينتمي إلى جيل وسطي في المحترف اللبناني المعاصر. جيلٌ أخذ من معلمين مثل شفيق عبود، وحسين ماضي، وشوقي شمعون، واستأنس بتجارب مجايلة له مثل هنيبال سروجي، وبسام جعيتاني وآخرين، وظل منفتحاً على تجارب الأجيال التالية التي شغف الكثير منها باستثمار منجزات الفنون المعاصرة والتجهيز والفيديو آرت. هناك نوع من «الوسطية» التشكيلية في تجربة حرب الذي يستدعي عناصر لونية وبصرية متعددة إلى لوحته التي تتسع لممارسات وتقنيات ووسائط مختلفة.
التجريد حاضرٌ كروحية عامة للتجربة، لكنه مخترقٌ بأشكال بشرية وحيوانية وهندسية، وممرَّغٌ في أسئلة ذات طابع وجودي وشخصي. الحرب الأهلية لا تزال تشتغل بحماسة في خلفية عمله. الحرب هي الشرخ أو الجرح الذي يشطر لوحاته ويشظّي تكويناتها أو يجعل بنيتها مؤلفة وفق منطق مونتاجي يقطع اللوحة إلى مساحات وخانات لونية غير متكافئة. أحياناً، يكون التقطيع بسيطاً ومتجاوراً، وأحياناً يحدث مع تداخلات متبادلة في المساحات، أو تبدو كأنها منجزة بلصق الوحدة فوق الأخرى من دون أن تغطيها كاملةً. ممارساتٌ نجدها في سلسلة لوحات بعنوان «ذكريات»، وتُشعرنا بأننا أمام لوحة داخل لوحة، وأن اللوحة مسرحٌ لندوبٍ شخصية ومؤثرات فنية وتراكمات نفسية. هناك رضّة ما لعلها ناشئة من هلع الحرب، أو من الرغبة في مجاراة الذات ونقل التجربة إلى مكان أفضل، أو من خليط يضم كل هذا معاً. اللوحة في النهاية هي «هرب من الواقع، ومحاولة النجاة من الذات» كما نقرأ في كلمة المعرض التي يقول فيها حرب نفسه: «أنا أرسم لكي لا أتأذى».
تأثيرات تجريدية من المعلم الأميركي جاكسون بولوك

إنه يبحث عن ملاذ وحماية في الرسم، وما الدوائر الحاضرة بكثافة وألوان متعددة سوى أمكنة للسكن والعزلة. الدوائر على أي حال هي شيفرة المعرض كله، فهي بيضاء ومكتظة وتكاد تغلي في لوحة «الوقت بعد الظهر»، وهي رمادية ومتلاصقة في لوحة «دوامة»، وترابية وصفراء في لوحة «بلا عنوان»، وزرقاء مدمّاة بلطخات حمراء في لوحة «نقاط زرق»، ثم زرقاء وسوداء وبيضاء تتلاطم حول ساعة في المنتصف في لوحة «ساعة صغيرة». هكذا تسلمنا الدوائر الغامضة التي تبدو مجرد أشكال هندسية وتجريدية بلا هوية واضحة ومحددة إلى فكرة الساعة والزمن الدائري الذي يتعاقب في مينائها وعقاربها. الساعة هي الوجه السافر لشيفرة المعرض الدائرية. إنها تعويذة معكوسة تثير القلق أكثر من كونها تجلب الحظ أو الحماية. إنها إمضاءٌ آخر يتكرر في اللوحات إلى جانب إمضاء توقيع الرسام. التكرار هو جزء من تأليف اللوحة وأسلبتها. كأن الرسم هو رحلة معاكسة للزمن الذي يحمل فكرة الموت والفقد وفوات الأوان. الموت يستدعي مجدداً تروما الحرب التي لا شفاء منها، لكنه يستدعي ذلك الذعر الأنطولوجي الذي يعيشه الفرد في مواجهة الموت العادي أيضاً. هناك تأملات وخلاصات ذاتية تسهم في صنع انطباعاتنا عن أعمال جوزيف حرب. تأملات تأذن لنا بتخمين حالته ومزاجه أثناء الرسم، وليس معرفة النسخة النهائية التي يعرضها أمامنا. أما ما يجعل كل ذلك مؤثراً ومعدياً، فهو حيادية تأليف اللوحة التي تتخلى عن الميوعة التجريدية والتفجع اللوني لصالح برودة هندسية وشكلانية صارمة. هناك نوع من اللعب المحسوب والعقلاني إلى جانب مزاج متقشف يضع اللوحات في حالة صمت وسكينة. كأن المطلوب منها أن تتأمل نفسها أكثر من ثرثرتها مع المتلقي. بعض الزخارف المتحصلة من تكرار الدوائر والساعات تُحسسنا بنوع من الثرثرة والاسترسال، إلا أن ذلك ملجومٌ بمكونات تجريدية صارمة وجافة. هناك تأثيرات من المعلم الأميركي جاكسون بولوك الذي يقر جوزيف حرب بأبحاثه العميقة في تجربته أثناء إقامته في الولايات المتحدة، بينما الاسترسال الخفيف آتٍ من هويته الشرقية التي تمتزج بالتجريد.



«جوزيف حرب: قيد الإنشاء»: حتى 26 نيسان (أبريل) ـــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة). للاستعلام: 01/868290


يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza