بعد الرابع من آب (أغسطس)، تاريخ تفجير مرفأ بيروت الذي خلّف أكثر من 200 شهيد وآلاف الجرحى وتضرر مئات المباني والمصالح التجارية، لغاية اليوم، ما زالت الفوضى سيدة الموقف في نقل سرديات ما حدث، وعلى من تقع مسؤولية تخزين أطنان من مادة «نترات الأمونيوم» في العنبر رقم 12 منذ أكثر من ست سنوات. طيلة الفترة الماضية، جهدت منصّات إعلامية محلية وعربية وغربية، لتتبع خيوط التفجير الدامي، حتى إنّ بعضها حوّل شاشته إلى محكمة تصوّب السهام على أطراف سياسية أو إدارية محددة لها صلة بالمرفأ. بعدها، صرنا أمام موجة مختلفة، واضحة الأهداف والمعالم تستخدم الاستثمار السياسي، ضدّ فريق سياسي واحد وتحديداً «حزب الله» بتحميله مسؤولية التفجير وحيازة المادة داخل العنبر المذكور. أضف إلى هذا الأداء الإعلامي، تلكؤ الأجهزة القضائية والسياسية في حسم ملف التفجير أو أقلّه إطلاع اللبنانيين على حقيقة ما حصل في 4 آب (أغسطس). هكذا، أضحينا أمام حلقة مفرغة، تضيع فيها الحقيقة، وتتسيّدها الفوضى في المعلومات والاتّهامات ونسج السرديات المحتملة لما حصل في المرفأ. أمام هذا الواقع، شهدنا وثائقيات وتقارير كثيرة تناولت تفجير المرفأ، إلّا أنّ سلسلة «العنبر 12» (إعداد وتحقيق: شيراز حايك- إخراج: محمد صفا- منتج منفذ :Discreet) التي عُرضت حلقتها الأولى أول من أمس، على «الميادين»، بعنوان «شحنة الموت»، تحاول عبر أجزاء ثلاثة، إعادة تنظيم المعلومات وترتيبها في عقل المشاهد، واعتماد الشفافية وأخذ المسافة اللازمة من الآراء بهدف تقديم الحدث من جميع زواياه، وعلى لسان الضيوف، مع إعطاء الأولوية للمعلومة الدقيقة المستقاة من مصادرها المباشرة. الحلقة الأولى، التي استُهلّت بلحظة الانفجار، وتناولت مسار السفينة «روسوس» التي كانت محمّلة بأكثر من 2700 طن من مادة «نترات الأمونيوم»، أضاءت على مسارها الذي بدأ عام 2013، من جورجيا فاسطنبول فبيروت، والإشكاليات التي طالتها في تخلّي مالكها عنها، وعن طاقمها الذي ظلّ محتَجزاً في بيروت، ثم أُطلق سراحه لاحقاً، بعد احتجاز السفينة ومنعها من استكمال الإبحار لعدم توافر الشروط الفنيّة فيها. رحلة السفينة التي يرويها قبطانها بوريس بروكشيف، ستُسرد باقي إشكالياتها مع المختصّين والمعنيين بهذا الملف: مندوب وزارة المالية في «اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت» طلال فاضل، والزميل حسن عليق، الى جانب وزير الدفاع يعقوب الصراف، والقاضي حاتم ماضي، ومدير عام «جهاز أمن الدولة» طوني صليبا، ووزير الأشغال العامة والنقل» يوسف فنيانوس، والخبير الاقتصادي كمال حمدان، والمحامية بشرى الخليل، ورئيس «المجلس الأعلى للجمارك» نزار خليل (٢٠١٤- ٢٠١٧). وخُصّص الجزء الأخير من الحلقة لتناول تاريخية المرفأ، منذ نشأته وصولاً إلى تسلّم الدولة اللبنانية مقاليده في التسعينيات في عهد حكومة رفيق الحريري. السرد التاريخي، تولته الباحثة في تاريخ المرفأ كريستين بابيكيان، معرّجةً على العهدين العثماني والانتداب الفرنسي، وصولاً الى تشكيل ما بات يُعرف بـ«اللجنة المؤقّتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت». توطئة كان لا بدّ منها، للتمهيد للجزء الثاني المعنون «خفايا وأسرار». يضيء الأخير على هيكلية المرفأ، مع تفنيد الأجهزة والوزارات الوصية عليه، لمحاولة معرفة على من تقع مسؤولية التفجير. أمر لا شك أنه في غاية الصعوبة، مع إلقاء كل طرف اللوم على الآخر. ومع هذا الضياع الذي قد تخلّفه هذه الفوضى، إلّا أن القيمين على الوثائقي حرصوا على عرض مختلف الآراء، بدون تبنٍّ أو توجيه لها، لا سيما أنّ الجهات المسؤولة عن المرفأ تتفرّع أجهزةً في الدولة اللبنانية، وتختلف صلاحياتها ومهامها التقنية والأمنية. هذا ما تؤكده لنا معدّة السلسلة شيراز حايك التي أنجزت هذا العمل مع بقية الفريق في ظرف أربعين يوماً فقط، بين تحقيق وإعداد تنفيذ فني، ونقلت حرصها في هذا المجال، على عرض المعلومات بمنهجية علمية، من دون اتهام ولا تجزئة، في محاولة للوصول إلى الرواية الكاملة لتفجير المرفأ، مع عرض وثائق وفيديوات وصور تبثّ للمرة الأولى، من ضمنها صور للعنبر رقم 12 قبيل التفجير، تظهر طريقة التوضيب الخاطئة لأكياس الأمونيوم، والظروف المناخية التي أسهمت في ارتفاع نسبة «الآزوت» داخلها، لتصل إلى أكثر من 33%، أي تحوّلها إلى مادة متفجرة. هنا، يقف الوثائقي عند التحليل العلمي لهذه المواد، مع الخبير الكيميائي، فؤاد بزي، ويشير إلى الكشف عن هذه المواد في عام 2015، وتبيان أنها متفجرة، والضياع الذي حصل بعدها، لمحاولة التخلّص منها، وإعطائها للجيش الذي رفض الأمر، والسؤال الكبير بعدها عن غياب تحرّك الجهة المعنية للإخبار ومعالجة تلك المواد المتفجرة في المرفأ.
في الحلقة الأخيرة (عصف ودمار)، عودة إلى لحظة التفجير، وقرار تلحيم العنبر 12، من قبل فريق الصيانة، مع عرض صور حصرية لأبوابه المخلعة، واستعراض للفجوة التي حدثت في العنبر ومعالجتها، وتنفيذ قرار إقفال الأبواب وقتها، من دون أن تطال هذه العملية، التلحيم الذي شكّل الشرارة لتفجير المرفأ. في هذا الجزء أيضاً، إطلالة على المسار السياسي الذي طبع فترة ما بعد التفجير أكان داخلياً أم خارجياً، وتحديداً الحركة الفرنسية، مع الصحافي جورج مالبرونو المتخصّص في الملف اللبناني والذي كان من عداد الوفد الذي رافق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارتيه الأخيريتين إلى بيروت. كما يعرض هذا الجزء ملخصات التحقيقات التي قامت بها جهات أمنية فرنسية وأميركية وحتى تشيلية، وتوصلت إلى أن التفجير حصل نتيجة «خطأ بشري عرضي»، مع استبعاد رواية ضلوع «إسرائيل» في التفجير. وهنا، نصل إلى الاستثمار السياسي الذي حدث بعيد التفجير، واتهام «حزب الله» به. هنا، تلفت حايك، إلى أن المعالجة حرصت على إبراز الإجابة التقنية والمنطقية، على ألسنة مختصين لدحض هذا الاتهام، إذ لا يمكن مثلاً تخزين أسلحة في منطقة بحرية رطبة، كما يستحيل التحرك في منطقة المرفأ، التي لا تتناسب مع طبيعة المنطقة الأمنية التي تحكم عملية تخزين الأسلحة. في المحصلة، يحاول «العنبر 12» تقديم المعلومة، ولو كانت معقدة وتقنية، بطريقة سلسة إلى المشاهد (الاستعانة بالغرافيكس للشرح)، وأخذ مسافة من تصريحات الضيوف، على قاعدة «الكل مسؤول» والكل متهم حتى يثبت العكس، في انتظار اتضاح باقي الوقائع التي سيظهرها التحقيق القضائي في هذا المجال.

* الحلقة الثانية من «العنبر 12»: الأحد المقبل عند الساعة 21:00 على «الميادين».
* الحلقة الثالثة والأخيرة «عصف ودمار»: الأحد 20 كانون الأول (ديسمبر) عند الساعة 21:00.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا