دائماً ما كنّا نرى صوفيا لورين في شققها القديمة. تتكئ إلى باب المطبخ، تميل جسدها، وذراعاها متشابكتان. تهز رأسها قليلاً بفخر وعزم واضحين. تنظر إلى ما يحدث أمامها من دون أن تنبس ببنت شفة. في أفلامها السابقة، هذه الوقفة هي وقفة شك حول ما إذا كان عليها تصديق ما تراه عينها. كانت تقف هكذا وترمق الرجال بنظرات قاتلة، وهم يقدمون لها نذور العشق. في فيلمها الجديد «الحياة المقبلة» (2020 ـ إخراج ادواردو بونتي)، لم تتغيّر الوقفة، والشك ما زال حاضراً، ولكن ليس برجل، إنما بفتى يبلغ اثني عشر عاماً.ذات مرة، عملت مدام روزا (صوفيا لورين) كبائعة هوى. ولكن ذلك كان منذ فترة طويلة. هي اليوم تعتني بأطفال بائعات الهوى الذين لم يعُد لديهم منزل. طلب منها الطبيب كوهين (رناتو كاربنتييري) ذات يوم الاهتمام بمومو (إبراهيما غوي) الفتى السنغالي المسلم. في البداية، رفضت، خاصة أنّ لقاءها الأول بمومو كان صعباً جداً. لكن في الأخير، وافقت. مع ذلك، لا أثر للسلام بينهما. يتسبّب مومو مراراً وتكراراً بمتاعب لها، بسبب تمرّده وعمله السري في بيع المخدرات. ولكن مع الوقت، يطوّر اهتماماً بالمرأة العجوز، التي يبدو أنّ لديها سرّاً كبيراً تخفيه.
يعود الفضل لظهور صوفيا لورين من جديد بعد عشر سنوات على فيلمها الأخير، لابنها إدواردو بونتي. الأخير أخرج فيلم «الحياة المقبلة» (عملهما الثالث معاً) وشارك في كتابته. القصة ليست قصته، بل تعود لشخص آخر، وبالتحديد رومان غاري الذي كتب الرواية عام 1975 ونشرها باسم مستعار هو إميل أجار وحصل على جائزة «غونكور» الفرنسية العريقة عنها. بونتي غيّر القصة قليلاً: تحدث الحكاية في إيطاليا اليوم، والصبي الجزائري أصبح سنغالياً، إلى جانب بعض التفاصيل الأخرى. طبعاً، ظلّ الهيكل الأساسي كما هو. لا يزال الأمر يدور حول روزا بائعة الهوى السابقة التي تحمل ذكريات مؤلمة عن محرقة اليهود، وصبي يكافح في الحياة كأجنبي. لذلك هناك شخصان على هامش المجتمع، تمكّنا من تقديم الدعم لبعضهما. لكن أولاً وقبل كل شيء، من الضروري التغلب على مختلف العقبات وبناء الثقة، وهي نقطة يجدها كلاهما صعبة بسبب تجاربهما.
القصة بجوهرها هي عن الاندماج وتقبّل الآخر، وفي هذه الحالة ليس هذا الاندماج اجتماعياً بحتاً، بل يتعلّق بشكل أساسي باندماج أسرى من خلال البحث عن دفء ما يشبه العائلة. ولكن، الفيلم يصل إلى حدّ الخطاب التعليمي الواضح والمتحذلق. يدور حول نفسه بأمان، ويمكن التنبؤ بكلّ مشهد منذ البداية إلى النهاية. حتى إنّه يمكن ترك الفيلم لمدة نصف ساعة والعودة، ولا شيء سوف يفوتنا. ويمكن حتى البدء بالفيلم من نصفه أو من مشاهد الدقائق العشرين الأخيرة، أو أفضل شيء هو متابعة المشاهد التي تكون فيها لورين على الشاشة فقط.
أصر بونتي على مرغ وجوهنا بالتسامح والتعاطف، مفضلاً استعمال نغمات ميلودرامية بالية. يكافح الفيلم للوصول إلى كل المواضيع التي تتم تغطيتها، والقصص الفرعية المختلفة تنزلق من دون اتجاه معيّن تظهر وتختفي فجأة. لا يملك المخرج المهارة الديناميكية لتطوير الشخصيات والسماح للمشاهد بالتعمّق في القصة.
أصرّ ادواردو بونتي على مرغ وجوهنا بالتسامح والتعاطف، مفضلاً استعمال نغمات ميلودرامية بالية

لا يملك أسلوباً واضح المعالم، جمع تقبل الآخر والمحرقة والدعارة والتحول الجنسي والمهاجرين وعنف السلطات والفرق بين الأديان وتجارة المخدرات والروابط الأسرية، ومشى بها على رؤوس أصابعه مبتعداً عن أحشاء السينما الواقعية الإيطالية وهوى في وحل السنتمالية. مواضيع كثيرة جداً ووقت قصير. حتى العلاقة بين روزا ومومو لم تُمنح سوى القليل من الوقت. فالصداقة والالفة التي وُجدت في مرحلة ما، لم نعرف بالضبط كيف حدثت.
أفضل ما في الفيلم هي صوفيا لورين بالتأكيد، ولكن لا يمكنها وحدها إنقاذ فيلم سيئ. نشاهد المرأة التي تبلغ 86 عاماً في تألّق ساحر، تماماً مثل عينيها اللتين لا تزالان تبدوان كأنهما تنظران مباشرة إلى قلوبنا. لم تخدش السنوات الرقة التي اعتادت صوفيا لورين احتلال الشاشة بها. ممثلة خالدة تعرف كيف تكون ذات مصداقية في دور السيدة روزا التي تعتني بالآخرين قبل نفسها، بالرغم من عمرها والعديد من المشاكل. الحسنة الوحيدة في الفيلم أننا يمكن أن نشاهد صوفيا لورين مرشحة مرة جديدة لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثلة.

* The Life Ahead على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا