عندما تفتح رواية «طير الليل» (منشورات المتوسط) للكاتب الجزائري المغترب عمارة لخوص، تدرك تماماً أنك أمام نصّ جزائري بمقاييس عالمية، فالروايات العظيمة تظهر منذ صفحاتها الأولى التي يتجلى فيها الجانب السردي والإبداعي لصاحبها. حين شرعت في القراءة شعرت وكأنني أشاهد فيلماً بوليسياً من أربعينيات القرن الماضي كما قالت مليكة دراجي إحدى شخصيات الرواية، وهي تصف من التقطت الكاميرا فيديو لهما، يخرجان من بيت ميلود صبري (طير الليل). تندرج رواية «طير الليل» ضمن أدب الجريمة أو الرواية السوداء، المشوقة جداً لأنّها تجعلك كل مرة تصطدم بحقيقة تكشف لك الكثير من الحقائق التي ترعبك. في الوقت ذاته تقل لك: أفق يا صاح، هذا ما يحدث بالفعل في الجزائر وما خفي أعظم! تروي الرواية قصة شخصية يقال بأنها وطنية قتلت ليلة الاحتفال بعيد الاستقلال. تكتشف على مدار الرواية أسراراً، ضحايا ومشتبهين لم يكونوا في الحسبان! يقول الكاتب على لسان أحد أبطاله: «الماضي هو المفتاح».

استطاع الكاتب أن يستقرئ الماضي انطلاقاً من أحداث راهنة من خلال شخوص روايته ميلود صبري (طير الليل) وادريس طالبي (الصقر)، وزهرة مصباح (دلوريس)، وعباس بادي (البلارج) الذين جمعهم النضال وفرقتهم الخيانة، الحب، الجشع، والكثير من الكذب والوهم.
استخدم الماضي للتحدّث عما تمرّ به البلاد حالياً رابطاً إياه بالحاضر في توليفة رائعة حدّ الألم، أراد من خلالها أن يبرز تداعيات مجتمع هشّ مبني على الكذب والعلاقات الزائفة. مجتمع يستعمل فيه الدين لغايات دنيوية. مجتمع يريد أن يولد بين أبناء الشعب الواحد طائفية من عدم! يقول على لسان أحد شخوص روايته أن الجزائر تسع الجميع: «كان من المفترض على زعيم مثله (بن بلة) أن يفكر في جزائر المستقبل حيث تتسع العرب والشاوية والقبائل والتوارق والمزاب ولم لا الأوروبيين أيضاً، لماذا بناء دولة على الإقصاء!». وصف أيضاً ما آل إليه العمران في جزائر ما بعد الاستقلال: «الفيلات الجميلة ذات الحدائق البديعة تترك مكانها لبنايات غير متناسقة وقبيحة المنظر». عندما تصادفك الفقرة التي تسرد تفاصيل قضية الكوكاكين، تقفز إلى رأسك فجأة قضايا رموز الفساد الذين يقبعون في سجن الحراش في الجزائر. أغدق عليهم الكاتب بكل ما يمكن أن يقال فيهم وعنهم مناصفة للتاريخ. ذكر الروائي جملة على لسان إدريس طالبي تذكّر بكل من عذبهم استقلال الجزائر: «عذبني الاستعمار وعذبني الاستقلال» لربما يريد الروائي من خلالها أن يحيل القارئ لما حدث للمجاهد الكبير لخضر بورقعة. تحدث كثيراً عن جزائر ما بعد الاستقلال وما يسمى بمجاهدي الصدف والأثرياء الجدد، في حين من خدم الجزائر لا يملك حتى بيتاً.
استخدم الروائي شخصية العقيد في الجيش، المكلّف بمكافحة الإرهاب العقيد سلطاني ليس لكي يخدم الرواية فحسب، بل ليسرد لنا قصة طير الليل التي تروى أثناء فترتين زمنتين مختلفتين: فترة الحاضر وهي فترة التحقيق في مقتل طير الليل وفترة الماضي التي تظهر لنا فيها شخوص الرواية بشكل أوضح.
تلاحظ كذلك من خلال استجوابات العقيد وتذكّره لماضيه أن الروائي كان يتحدث بلسان كل من عايش العشرية السوداء، من فترة الدراسة والنقاشات مع الإسلاميين، ومقتل عبد القادر علولة ذات رمضان من 1994. أماط اللثام عن مخلفات العشرية السوداء التي تبعها النظام البوتفليقي وما فعله بالمجتمع، الذي أصبح هشاً منزوع القيم خالياً من المبادئ. هذه الرواية تظهر المجتمع الجزائري في فترة ما بعد الاستقلال على حقيقته إلى الآن، تصف فيه كل مظاهر السوء: النفاق، الغدر، الخيانة والانتهازية.
يقال بأن التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن التاريخ يكتبه أيضاً بكل شجاعة من عاش في الجزائر بعد الاستقلال وعايش الإرهاب وحكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
عمارة لخوص ظاهرة روائية جزائرية بل عربية متفردة، فهو يكتب بالعربية والإيطالية. نشر لغاية الآن أربع روايات بالإيطالية ترجمت إلى ثماني لغات. خلال تواصلنا معه، أكّد أنه عازم على مواصلة الكتابة في الرواية الإجرامية المتسلسلة لأنها الأنسب لفهم الواقع الجزائري والعربي كذلك. وحالياً، يعكف على كتابة القصة الثانية مع نفس البطل العقيد كريم سلطاني، وهدفه كروائي هو خلق قاعدة من القراء الإيجابيين الذين يتفاعلون مع النص ويسعون إلى إجاد الأجوبة للأسئلة التي يطرحها النص.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا