بين أثقال الجسد، وتلك النداءات الفطرية الداخليّة، ثمّة ما يتحرّك بهدوء ما هو سابق على حضورهما. تنقّب يارا بستاني (1990) عن تلك الهيئات الأولى في عرضها الجديد «نوكتيلوكا» الذي افتُتح أمس ويُعرض مساء اليوم على خشبة مسرح «دوار الشمس» (الطيونة – بيروت). طوال أربعين دقيقة، يشكّل العرض الراقص رحلة بحث عن الحركة الأصل التي تسمّيها المصمّمة والراقصة اللبنانية بالطبقة الفطريّة/البريّة، وفق نبذة العمل. وحين ينتقل هذا البحث إلى الرقص، ستكون الرحلة أشبه بمطاردة حركة متردّدة، ومشحونة منذ تخلّيها عما أُملي عليها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. تلتقي في العمل تساؤلات وخلفيات طبيعية ومدينية عدّة تقلّب وتختبر حضور الجسد في الفضاءات المعاصرة، في توجّه لا يبتعد عن مشاغل عرضيها السابقين «ليل ونهار، بيروت»، و«إيفولفو» (راجع الكادر). يلحق الجسد صوتاً قديماً، بلغة حركية مكثّفة ضمن عرض متعدّد الوسائط. تصنعُ الفنانة أجساداً بإيقاعات متعدّدة وتعبر بينها طوال العرض (دراماتورجيا: رشا بارود) برفقة الصوت والموسيقى والإضاءة (تصميم: ريكاردو كلامنتي) والمؤثّرات البصرية والفيديو (تصميم يارا بستاني).البداية من فضاء مشرّع، أوّلي، ينمّ عن بدايات صافية تتقاطع مع عنوان العرض «نوكتيلوكا» (كائنات مجهرية تعيش وتضيء في قاع البحر). تلك الإضاءة الخافتة وسط فضاء قاتم/ تصنع كوناً رائقاً برفقة الموسيقى والأصوات المألوفة للكائنات والحشرات وعناصر طبيعية أخرى (تأليف: جيورجيوس غرغلاس). أمامنا كائن كبير يتمايل ببطء، يعلو ويهيم ويتبدّل، في حركة محكومة بعمق البحار، أو بطبيعة بريّة غير ممسوسة. يدعونا العرض إلى فضاء بدائي بأبعاد ثلاثية تحوي جسد الراقصة الملفوف بغطاء كبير (تصميم الملابس: يارا بستاني). تستخلص بستاني من الكون أو الطبيعة، عبورها الخافت كهواء حيث يصلنا الشعور بالتفتّح ضمن مشهد ممتع ومتقن بصريّاً. وإن كان العرض يقع بين المديني والطبيعي، بين الفطري والمسيّر، فإن هذه الإيقاعات المتذبذبة تقوم، إلى جانب الرقص، على التوليف البصري والسينوغرافي. تنتقل بنا من الحركة الفطريّة الأولى لكائنات طبيعية إلى جسد آخر. لسنا بحاجة إلى حضور المدينة لكي نتعرّف إليها. عبر بعض اللقطات والأصوات، تظهر بيروت. يمتلئ الرأس ويغصّ بتأثيراتها وأصواتها وأضوائها. المدينة هنا هي كلّ ما يحمله الجسد كميراث وحدود. نشهد على تبدّلاته وصراعاته المستمرّة، كأنّما الكوريغرافيا لا تسعى إلى الركون لحالة نهائية للجسم ولغته، ولا إلى اتجّاه مقرّر مسبقاً، بل تتعمّد إبقاءه على تقلّباته. إنه محكوم بإيقاع النمو والاكتشاف، وإن كان هذا يتطلّب التخفّف والعودة إلى زمن بعيد. يظهر هذا النبش الذاتي في حركات مقلّة ومكثّفة تبدو كما لو أنها تتلمّس طاقة الجسد وقدرته، تكتشف مداه وحدوده القصوى. سيتخلى الرأس عن صخب المدينة ويلحق بصوت عميق ومألوف. تتفلّت الأعضاء من تيبّسها تدريجياً. تتدافع القدمان، واليدان، بصعوبة. تحضر أثقال الجسد وقيوده عبر تعذّر حركة الراقصة على المسرح في بعض المقاطع. الجسد المنكمش، يحاول الرؤية بمفرده. يتعلّم المشي والنهوض كأنها المرّة الأولى، حيث يعيد ابتكار نفسه. هذا التحوّل هو جزء أساسي من العرض ولغته الحركيّة المجرّدة التي يتداخل فيها الحيواني والبشري، حين يتقمّص جسد الراقصة شكل حشرات تقفز وتنطوي على ذاتها قبل أن تتمكّن أخيراً من الوقوف. سيتسلّل البرّي تدريجياً، حتى يصبح الصوت الوحيد المسموع. في موازاة تأطير الحركة داخل المجتمع والفضاء المديني، هناك اللغة والسياق الكلامي المعترف به. في العرض توظّف يارا طبقاتها الصوتية لغناء جملة لحنية هائمة لكنها بدائيّة تذكّر بالإيقاعات الصوتية القبلية. تكررها وتتعثّر في تلاوتها أحياناً. يرتفع الصوت وينحسر، يتباطأ ويتسارع، لكنها تبدو تعويذة أخرى لإفاقة ما هو مخبّأ داخلياً، ولاستنطاق الجسد وحركته. رغم السعي الملحّ طوال العرض إلى القبض على هذا الداخل البري من خلال الحركة، لا يطمئن الجسد إلى إيقاع نهائي. يبقى مشرّعاً على احتملات كثيرة، قد تستكملها الفنانة في عروض لاحقة ضمن مشروع أوسع. في الحديث مع بستاني قبيل العرض، تخبرنا عن الخيارات القليلة المتاحة للجسد والأرواح في المدينة بفضائها ومساحاتها التي لا تتوقف عن إماتة وتبديد هذه التوجّهات الجامحة أو الفطريّة. تناقضات تظهر بوضوح في تصميم الرقص وإخراج العمل بشكل عام، بجمعه مرجعيات مختلفة من العلوم الطبيعية والأسئلة الفلسفية والسياسية، فضلاً عن اختبار وسائط فنية متنوّعة ضمن عرض واحد.

* «نوكتيلوكا»: 19:00 مساء اليوم - «مسرح دوار الشمس» (الطيونة – بيروت). للاستعلام: 70/765706


العرض الثالث
«نوكتيلوكا» هو العرض الراقص الثالث ليارا بستاني. البداية كانت مع عرض قصير بعنوان «ليلة ونهار، بيروت» (2017) حول العاصمة اللبنانية وصخبها، والعلاقة بين الطبيعي والمديني. أما «إيفولفو» (2018) فقد افتتحته ضمن فعاليات «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» (Bipod) وعرض لاحقاً في مدن عالمية عدّة. في ذلك العمل، رجعت بستاني إلى بداية التطور الطبيعي والبشري، لمساءلة موقع الجسد في ظلّ كل التطورات التكنولوجية والاجتماعية والفكرية السريعة. هكذا تشرّع الفضاءين الطبيعي والمديني على بعضهما، في عروض تجمع الفنون الأدائية والرقص المعاصر مع الفنون البصرية عبر استخدامها المرايا والانعكاسات والفيديو والأزياء العملاقة والضوء. لعلّ تنوّع التأثرات والعناصر في عروضها يرجع إلى خلفية بستاني التي درست السينما، قبل أن تدرس فنون السيرك في إسبانيا، فيما أسّست سنة 2015 مشروع «أمالغام» للتدريب على المسرح وفنون السيرك والرقص في بيروت.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا