الأستاذ محمد رضا شجريان حالة صوتية خارقة؛ يخرج فيها الصوت عن كونه متعلّقاً بالأذن إلى كونه كينونة تحاكي الوجود. الصوت عنده لم يُخلق ليكون من مختصات السمع، بل ليكون امتداداً وجودياً لكل من تلبس بالموجودية، وسلوكاً عرفانياً لكل ما من شأنه التعرف والمعرفة. إنشاده ليس مجرّد مسموعات مصاحبة للموسيقى ومليئة بالإيقاع والعُرب والمقامات، بل صيرورة عشق تحكي معاناة الرحلة بين السماء والأرض. تجربته الغنائية لا تحاكي الشعور، إنما تجليه وجودياً على طريقة الخبرة الصوفية؛ كما أن سيرته الصوتية عصيّة على الحكاية باعتبارها تجربة معاشة لا يعود فيؤها ومردودها إلا على المنخرط في أتونها فحسب.تتخطى حالة شجريان الفنية الزمان بأبعاده الثلاثة. صوته يستحضر الماضي والسفر الأول، ويديم الحضور في الحاضر وموطن الغربة، ولا ينتهي في الغد ورحلة الإياب؛ كأنه يصدح خارج دورة الأفلاك فتستحيل الأبدية لحظة ممتدة واللحظة أبدية مؤقتة؛ أو كأنه يغرد بعيداً من الأمكنة المتحيزة فتصبح الأبعاد الثلاثة المكانية فراغاً لا يملأه سوى العشق، حيث يصبح الصوت بعداً رابعاً خارج المكان والزمان؛ ليتوالد من ذلك كله مساوقة بين الصوت والعالم، فيحتل الصوت الطرف الآخر من ثنائية الوجود بديلاً من الماهية واللغة والمحمولات ومقولات الجواهر والأعراض.
صوت شجريان رحلة تتجاوز المألوف من ملامسة الوجدان إلى حد الانعطاف والانخطاف في موطن الروح؛ هو نداء الترحال من الحال إلى الأحوال، ومن الإدبار إلى الإقبال، ومن النزول إلى المنازل، ومن الإقامة إلى المقامات، ومن العشق إلى المعشوق، ومن الواو إلى القسم، ومن القاف إلى الجبل، ومن قول «أوَلم تؤمن» إلى قول «ليطمئن قلبي» ومن سؤال «أَلَسْتُ» إلى جواب «بلى».


ليس بين شجريان/ الصوت والعالم العلوي واسطة. هو من لدن الملكوت ومستوطن فيه، فيصدح من علٍ نزولاً ثم صعوداً بالعاشقين. صوته طريق بلا قافلة، قبض بلا انقباض، بسط بلا تبسيط، سير بلا مسير، سلوك بلا اعوجاج، سكر بلا إثم، سقاية بلا ساقي، خمر بلا كأس، خمارة بلا مجون، ذكر بلا أذكار، حضور بلا احتضار، شهود بلا شواهد، وسَفَر لا يتهدده قلة الزاد أو قطاع الطريق..
يتساوى في صوته الصخب والسكون على حد الاستواء بين الوجود والعدم؛ فيضطرب العقل في حضرة القلب، وينكسر المنطق في ردهة السلوك، وينكفئ المنهج في مقام العروج، ويتقهقر الدليل من سطوة الكشف. إنه الجنون على طريقة الجذبة، والرؤيا على صهوة الجلوة، والأنس على عزلة الوحدة في الخلوة.
في صوته حنين كأنه أقصى تجليات العشق، وحجاب أشبه بخرقة تستر عورة العالم، وهدير يخرج من دوران الأفلاك، وأنين يولد من ألم الدهر الذي لا ينتهي، وهجر يطوي الأزمان أملاً بالوصال، ونشوة لا يقتلها وصول، وعشق لا يسكن بلقاء المعشوق، وحيرة لا يخاصمها يقين، وحزن لا يباينه فرح، وقوس صعود لا يليه نزول، ومرآة تعكس خبايا الروح، و...
شجريان صوت العارفين، حيث استطاع أن يقول عنهم في الصوت ما قالوه في الكلمات، وأن يصدح عنهم في الإنشاد ما كتبوه شعراً وسرديات. لولا صوته هو ومَن يليه في القائمة (شهرام ناظري، وعلي رضا إفتخاري) لظلت مآثر العرفاء، من أمثال مولانا الرومي وحافظ الشيرازي وبابا طاهر عريان، شعراً مقتصراً على قلة، وكلمات لا ينجذب إليها إلا الخواص.
يتساوى في صوته الصخب والسكون على حد الاستواء بين الوجود والعدم


رحل شجريان، لكنه لم يرحل قبل أن يصبح مفردة من مفردات تشكيل الهوية الإيرانية المعاصرة. غادر هذا العالم، بعد أكثر من نصف قرن من تربعه على عرش المبدعين الإيرانيين، وهو يحتل موقع الفرادة في العالم على صعيد الغناء «السنتي» والإنشاد الصوفي، بعدما استطاع أن يتجاوز بطغيان صوته عوائق اللغة والفهم، حيث يشكل الصوت حقلاً ميتالغوياً من الدلالة والمعنى والإشارات التي تعوض على المتلقي ميزة الفهم اللغوي.
شجريان الذي كان كل هذا، كتب ابنه وخليفته همايون في نعيه «تراب أقدام الشعب الإيراني غادر اليوم محلقاً للقاء الحبيب»..
في ألبومه المعروف، «الليل/ السكوت/ القفار» (شب،سكوت،كوير) يقول شجريان مخاطباً المطر: «إهطل أيها المطر كالمجنون (قيس) على كل ليلى»..
وهكذا كان هطوله على العاشقين..

* أستاذ الفلسفة والتصوّف في الجامعة الللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا