الدار البيضاء | بعد قرابة شهرين ونصف الشهر على اعتقال الصحافي المغربي عمر الراضي (33 سنة)، على ذمة التحقيق في قضية اغتصابه زميلته، تقدّم الوكيل العام في محكمة الاستئناف في مدينة الدار البيضاء، في 28 أيلول (سبتمبر)، بطلب إجراء تحقيق مع الشاهد الوحيد في ملف عمر، الصحافي عماد استيتو. إلا أنّه سرعان ما أصبح الأخير متهماً أيضاً بـ «المشاركة في هتك عرض أنثى بالعنف والمشاركة في الاغتصاب»، فيما أدانت «مراسلون بلا حدود»، توظيف القضايا الجنسية ضد الصحافيين المستقلين في المغرب. حالما أعلن المحامي محمد المسعودي، عضو هيئة الدفاع عن الصحافي عماد استيتو، الخبر عبر صفحته الفايسبوكية، انتشرت المعلومة كالنار في الهشيم، وانخرط سياسيون ونشطاء ومثقفون وصحافيون، في نقاش عام، حول التهم الجنسية، التي توجّه إلى الصحافيين المحسوبين على الصحافة المستقلة، وحول سياسة «كسر العظام» التي ينتهجها جهاز الشرطة ومؤسسة القضاء، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بصحافيين يكتبون عن «الممنوع» داخل نظام الدولة المغربية.
مزعج للسلطات
منذ أن ولج عمر الراضي مهنة الصحافة، وهو يكتب في «المنطقة المحظورة». آخر أبرز ملفات الفساد التي فجرها، كانت عن «أراضي خدام الدولة» في تموز (يوليو) سنة 2016، وهي مساحات شاسعة من الأراضي، تقع في الرباط، باعتها الدولة بأثمنة رمزية، لصالح شخصيات نافذة ورجال أعمال وسياسيين محسوبين على الدائرة المحيطة للقصر. وكان عمر الاختصاصي في الصحافة الاستقصائية وصحافة البيانات، قد وصل إلى هذه البيانات، ثم عمّمها على الكثير من المنابر الإعلامية المغربية والعربية الدولية، التي تحظى بمتابعة كبيرة من طرف القراء. الموضوع كان محرجاً جداً للدولة المغربية، أزكته حتى المرافعات السياسية التي قام بها النواب داخل البرلمان. بعد ذلك، عادت الجهات المسؤولة عن تلك البيانات، وحذفتها من مكان نشرها. وعن هذه الواقعة، قال عمر في تصريح صحافي لموقع «لوديسك بالعربي»: «بدأت باستخراج المعلومات من الساعة الرابعة لغاية السادسة مساء، ثم أُغلق النظام، فهموا أنني كنت أقوم باستخراج معلومات».
ويصف عمر كيف أصبح إعداد التقارير الصحافية أكثر صعوبة. ففي وقت سابق من هذا العام، وكجزء من تحقيق صحافي في انتهاكات حقوق منتفعي الأراضي، أجرى عمر مقابلات مع قرويين عادوا للاتصال به لسحب أقوالهم، قائلين إنهم تعرضوا للتهديد من قِبل الشرطة. «فانتهى بي الأمر إلى عدم إدراج التصريحات لحماية الناس، ولكن أعتقد أنه من المحتم تكرار مثل هذا الأمر، إنه نموذج عمل السلطات اليوم».

برنامج إسرائيلي للتجسّس عليه
مرّ على فضيحة أراضي خدام الدولة أربع سنوات، قبل أن تنشر منظمة العفو الدولية، تقريراً مطولاً في 22 حزيران (يونيو) 2020، تكشف فيه بالأدلة تورط السلطات المغربية في عملية «التجسس» على الصحافي عمر الراضي على مدى عام كامل، عبر زرع برنامج في هاتفه، اسمه NSO، تابع لإحدى الشركات الإسرائيلية الرائدة في هذا النوع من الخدمة. بعدها، كشفت تقارير في «واشنطن بوست» و«ذا غارديان» و«نيويورك تايمز» وغيرها من الجرائد والمواقع الدولية، أن البرنامج نفسه المستخدَم لتعقّب عمر، كانت السلطات السعودية قد استخدمته لتعقّب الصحافي المقتول جمال خاشقجي من طرف المخابرات. وفي وقت سابق من الشهر نفسه، نُشر اسم زميلته في السكن ضمن مقال على موقع إخباري شهير، يقول عمر إنه يُستخدم أحياناً من قبل أجهزة الاستخبارات لتشويه سمعة الصحافيين. واتّهم المقال الشابة بإقامة «علاقة خارج إطار الزواج»، زاعماً أن عمر رُصِد في حالة سُكْر في الشارع. وتضمّن المقال أيضاً تفاصيل محادثة هاتفية أجراها مع باحث أميركي. أما عمر، فقد علّق على كل ذلك، قائلاً: «إنهم يبحثون عن حجج لتشويه صورتي، وتقويض مصداقيتي علناً»، مضيفاً أنَّ المقال كان يُفترض أن يكون أيضاً بمثابة تحذير له بأنّه تحت المراقبة.



صفعة للمملكة
بناء على كلّ هذه المعطيات، كانت منظّمة «مراسلون بلا حدود» قد وجّهت قبل أسبوعين «نداءً عاجلاً» إلى المقررة الخاصة بالأمم المتحدة المعنيّة بالعنف ضد المرأة، لطلب إدانة علنية لتوظيف القضايا الجنسية ضد الصحافيين المنتقدين في المغرب. وأشارت إلى أنّ الأخير يحتلّ المرتبة 133 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2020 الذي تصدره المنظمة. وشدّدت الأخيرة على أنّه «إن كان من الطبيعي أن يُؤخذ أيّ ادعاء بالاغتصاب أو الاعتداء الجنسي على محمل الجد وأن يقع التحقيق فيه بجدية، فإنّ «مراسلون بلا حدود» تقدّم قائمة لمعطيات عدة تشكّك في مصداقية عدد من التهم». وقال بول كوبان، مسؤول القسم القانوني في المنظمة إن «اتهام صوت ناقد بالاغتصاب أصبح ممارسة معروفة لأجهزة الاستخبارات المغربية، من أجل ضرب مصداقية الصحافيين والحدّ من إمكانية دعمهم، وهذا الأمر بيّنٌ في قضية عمر الراضي، مثلما كان الأمر مؤخراً في قضايا تُورّط عدداً من الصحافيين. وهذه الأساليب إذ تعيق الصحافيين المنتقدين، فإنها تُضعف النضال من أجل حقوق النساء أيضاً». وتعليقاً على «مراسلون بلا حدود»، قال الكاتب المغرب المعطي منجب، «إن نداء المنظمة القاسي، قد أصاب صورة المغرب في مقتل»، مؤكداً «أن السلطات المغربية لجأت، خلال السنوات الأخيرة، إلى التوظيف السياسي للتهم الأخلاقية والمالية ضد الصحافيين والمعارضين، سواء منهم المعتدلون أو الراديكاليون، الإسلاميون أو العلمانيون. بل إنّ أيّ سياسي تجرأ على انتقاد السلطة، ولو كان يشتغل من داخل منظومة الحكم، قد يتعرّض لهجوم من شبكة أمنية-إعلامية أصبحت مهابة الجانب. إنها تتحرك الآن في وضح النهار كما قد استحالت تدريجاً، منذ سنة 2011، قوةً ضاربةً على المستوى المالي واللوجيستي».
وفي سياق مشابه تماماً، أصدر تحالف مستقلّ لنسويات مغربيات عريضةً يؤكد فيها أنّ «إدانة الاغتصاب والعنف الجنسي واستغلال أجساد النساء يجب أن تمرّ أيضاً برفض توظيفهن في قضايا سياسية»

بيان وبيان مضاد
بعد ثلاثة أيام على تفجير العفو الدولية قضية تورط السلطات المغربية في «التجسس» على عمر الراضي التي شغلت الرأي العام المغربي والدولي، وجد عمر الراضي نفسه أمام الشرطة القضائية يوم 25 حزيران (يونيو) 2020 للاستماع إليه في قضية جديدة تتعلق «بالاشتباه في تورطه في الحصول على تمويلات من الخارج لها علاقات بجهات استخبارية» وفق ما جاء في بيان للنيابة العامة المغربية. أما على المستوى الرسمي، فقد نفى المغرب كل ما جاء في تقرير منظمة العفو، وطالبها بمدّه بالأدلة عن مزاعمها، متّهماً إياها في بيان رسمي «أنّ نشر التقرير وما صاحبه من تعبئة 17 منبراً إعلامياً عبر العالم لترويج اتّهامات غير مؤسسة، يندرج في إطار أجندة تستهدف المغرب، جزء منها مرتبط بجهات حاقدة على المملكة وأخرى لها علاقة بالتنافس بين مجموعات اقتصادية على تسويق معدات تستعمل في الاستخبار». وكشفت معلومات تضمنها تقرير أصدرته «منظمة حريات الإعلام والتعبير» المعروفة اختصاراً بـ «حاتم» سنة 2015، أن المغرب حصل سنة 2011 على بنية المراقبة EAGLE التي تسمح له بفرض الرقابة على الإنترنت، ومراقبة حركة الولوج. كما يرد اسم المغرب في قائمة الدول التي اشترت تقنيات المراقبة من شركات سويسرية سنتي 2013 و2014.

عمر في السجن: التهمة اغتصاب
في 29 تموز (يوليو) الماضي، قرر قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف في الدار البيضاء إيداع عمر الراضي السجن الاحتياطي، بعد أكثر من ستة استدعاءات متتالية، معلّلاً ذلك، بالقول: «تبعاً لشكاية تقدّمت بها إحدى المواطنات، وبناء على البحث الذي أنجزته مصالح الشرطة القضائية للدرك الملكي في الدار البيضاء، أحالت النيابة العامة عمر الراضي على قاضي التحقيق في محكمة الاستئناف في الدار البيضاء من أجل التحقيق في اشتباه ارتكابه جنايتَي هتك عرض بالعنف والاغتصاب».
وكان عمر قد نشر تصريحاً له، قبل إيداعه السجن معلقاً: «لن يصدق الرأي العام أنّ تحريك هذه الشكوى الكيدية ضدي في هذا الوقت بالذات مجرد صدفة بريئة، أو ملف منفصل عن التحرشات القضائية التي أتعرض لها»، موضحاً أن الواقعة موضوع الشكوى تتعلق «بعلاقة رضائية»، واصفاً ما يحدث له بـ«الكمين المعدّ بعناية وإحكام منذ أشهر».

عماد الشاهد... عماد المتهم
طوال هذه المدة التي استمرّت لشهرين ونصف الشهر، كان الشاهد الوحيد في ملف عمر، زميله الصحافي عماد استيتو، الذي يقضي معه كلّ وقته، وعاش معه كل تفاصيل هذه المضايقات، بل كان جزءاً من بعض الأحداث التي تقاسماها معاً، خصوصاً عندما قررت بعض المواقع الصحافية المحسوبة في المغرب على صحافة التشهير، تعقب الصحافيين، واستفزازهما في أماكن عامة، والمسّ بحياتهما الخاصة، واتهماهما بالسكر وإثارة الفوضى. وحدث أن تشاجر عمر وعماد مع شخص محسوب على واحد من هذه المنابر، ووصل الأمر إلى اقتيادهما إلى مخفر الشرطة لتسجيل محضر في الواقعة، اعتبرها الصحافيان سلوكاً مقصوداً للاستفزاز، وأكدا أنهما موضوع تعقب من طرف أشخاص.
تحوّل الصحافي عماد استيتو الشاهد الوحيد في القضية إلى «مشارك في الاغتصاب»!


عاد قاضي التحقيق ليوجّه لعماد ـــ الشاهد الوحيد في قضية اتهام عمر باغتصاب زميلته ـــ تهمة «المشاركة في هتك عرض أنثى بالعنف والمشاركة في الاغتصاب»، ونشرت جريدتا Mediapart و Humanité خبراً أوردتا فيه: «على الرغم من دعواتنا المتكررة، رفضت حفصة بنطاهر التي تتهم عمر الراضي باغتصابها، مقابلتنا، بعدما تحدثنا معها عبر رسائل Signal. كما رفضت أن توصلنا بمحاميها والأشخاص القريبين من الملف. أرسلنا لها عبر Signal سلسلة طويلة من الأسئلة بقيت بدون أجوبة. ولم يرغب مديرها السابق محمد خباشي، رئيس تحرير موقع «برلمان. كوم» الإلكتروني، طلبات المقابلات الهاتفية، أو الرد على أسئلتنا عبر البريد الإلكتروني. عند الاتصال، لم يستجب وكيل الملك ولا الدرك الملكي لطلبات المقابلة».
من جهته، استغرب محمد المسعودي محامي عماد استيتو، كيف صار الأخير متّهماً بعدما كان الشاهد الوحيد، على العلاقة الجنسية الرضائية التي تمّت بين عمر الراضي ومتهمته. وكتبت الناشطة السياسية آمنة التراس، تعليقاً على خبر توجيه هذه التهمة لاستيتو: «عماد لم يكن يستبعد هذا السيناريو في المنطق الجنائي المغربي. في قضايا مماثلة، يقتضي أن يكون شاهداً ومشتبهاً فيه في آن. وحسب نتائج التحقيق؛ إما أن يبقى شاهداً لصالح مسار تحقيق الشرطة القضائية، أو يتحول إلى متّهم. لكن سرعة تحويله إلى متّهم؛ عجيبة». وبسخرية كبيرة؛ كتب عادل تشيكيطو، رئيس «العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان»: «زمان؛ كنا نسمع عن شاهد زور، يلاحق لأن شهادته مضللة ومزورة. واليوم عشنا لنرى أن الشاهد في الحقيقة، يعرب في قواعد لغة الظلم، إلى «فاعل ضمير متصل» تقديره المشاركة في الاغتصاب وهتك عرض». وأضاف: «إياكم والتضامن مع عمر الراضي، فمساندته قد تجرّكم إلى قفص الملاحقة القضائية. احذروا الشهادة لصالح عمر، حتى لا يكون مصيركم كمصير الصحافي عماد استيتو، الذي التمست النيابة العامة من قاضي التحقيق ملاحقته بتهمة المشاركة في الاغتصاب».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا